ما هو التعلم Learning ؟



للإجابة عن هذا السؤال دعنا نستقرئ الأمثلة الآتية:

 

  1. المثال الأول: في أثناء تعلمك الحروف الهجائية كنت في البداية تتعثر في التعرُّف على تلك الحروف. وفي كتابتها. وشيئاً فشيئاً قل عدد الحروف التي تتعثر فيها ولا تجيد كتابتها وأخيراً صرت قادراً على التعرُّف عليها وفي جميع أوضاعها وكذلك كتاباتها، عندئذ نقول إنك تعلمت الحروف الهجائية. وإن هذا التعلُّم باقٍ معك باستمرار.
  2. المثال الثاني: عندما بدأت تتعلَّم السياقة كان من الصعب عليك الإمساك بمقود السيارة، والتآزر بين حركات الرجلين في الضغط على الفرامل أو دواسة الوقود وبين حركات يدك لإبدال القوة. وشيئاً فشيئاً صارت الأخطاء في هذا التآزر تقل، والسيطرة على السيارة تزداد وأخيراً بدأت حركاتك مع السيارة تتأدى بشكل آلي. بل أن هذا الأداء يمكن أن يتأدى بالجودة نفسها مع أي سيارة أخرى غير التي تعلمت السياقة عليها. عندئذ نقول تعلمت قيادة السيارة.
  3. المثال الثالث: الطفل يحاول أن يمد يديه لالتقاط شيء ما، فيجد أن يده لا تتوجه إلى الشيء المراد، وحتى لو توجهت إليه فإنه لا يستطيع أن يمسك بذلك الشيء ويوجهه نحو فمه. مع النمو تبدأ هذه العمليَّة تتأدى تدريجياً، إلى أن يصير الطفل قادراً على أدائها بسهولة ويسر وآلية لقد تغير هذا الطفل وصار أقدر على أداء عمليَّة لم يكن في إمكانه تأديتها.

 

من هذه الأمثلة وغيرها يمكننا التعرُّف على خصائص عمليَّة التعلُّم التي تمت

  1. الخاصة الأولى: "التغيُّر" فتعلُّم أي شيء جديد يتضمَّن التغيُّر.
  2. الخاصة الثانية: "الاستمراريَّة النسبيَّة" فالتعلُّم يتضمَّن الاستمراريَّة النسبيَّة لتأثيره في السلوك.
  3. الخاصة الثالثة: "الخبرة" فالتعلُّم يتضمَّن معايشة خبرة، مثال ذلك أن تخبر أن عليك أن تدرس جيداً حتى تحصل نتيجة جيدة في الامتحان.
  4. الخاصة الرابعة: "النشاط أو الجهد" فتعلم أي سلوك أو أي شيء يتطلَّب نشاطاً يبذله المُتعلِّم.

إذا ما جمعنا هذه الخصائص الأربع حصلنا على تعريف أولي للتعلُّم: "التعلُّم تغير ثابت نسبياً في السلوك نتيجة جهد يبذله المُتعلِّم عبر خبرات يمر بها".

 

إلا أن لهذا التعريف مُحدِّدات لابد من أن تكون في الحسبان ضمن التعلُّم

مثال ذلك: التعرّق في يوم حار، واصطكاك الأسنان في يوم شديد البرودة، وتغير نسب أبعاد الجسم مع النمو، والإفرازات الهرمونيَّة في المواقف الانفعاليَّة، وتزايد ضربات القلب ونسبة تدفق الدم في حالة الخوف، وأداء الوليد للأفعال المنعكسة بجميع أشكالها. وإطلاق الصراخ، والرضاعة وإصدار الأصوات في الساعات الأولى بعد مولده.

إن المدقق في هذه الأمثلة السابقة من التغيُّرات يمكن أن يصنفها في: تغيرات ناشئة عن النضج (Maturation) أو خبرات مبرمجة وراثياً أو آليات فسيولوجيَّة لا سيطرة للمُتعلِّم عليها. وعليه يتميز التعلُّم Learning)) من التغيُّرات السلوكيَّة الناتجة من بعض العلميات مثل النضج البيولوجي، والمرض. وينطبق هذا التعريف على المهارات الحركيَّة كقيادة سيارة، والمهارات العقليَّة (Intellectual skills) كالقراءة، والاتجاهات والقيم كالانحيازات والتعصب. فالتعلُّم في علم النفس لا يختلف عما وصلنا إليه من كل الأمثلة الثلاثة أعلاه.

إن مفهوم التعلُّم أكثر ما يلحق بعلماء السلوك الذين تبنوا المنحنى السلوكي (Behaviorism) الذي يعدُّ مرادفاً التعلُّم (Learning) إن أصحاب هذا المنحنى يُؤكِّدون الدراسة العمليَّة للسلوك وأن السلوك يتشكل بفعل العالم الخارجي.

فمنذ بدايات القرن الماضي أعلن علماء هذا المنحنى أن التعلُّم "عمليَّة تؤدي إلى تغير نسبي ونهائي في السلوك نتيجة للتدريب أو الخبرة" وأنه "تغير ظاهر في السلوك نتيجة الممارسة ثابت نسبياً".

وفي السنوات الأخيرة امتد مفهوم التعلُّم ليشمل بعض الأعراض العصابية   (Neurotic Symptoms) وأنماطاً من الأمراض العقليَّة. ومع تتالي ظهور نواتج أبحاث الدماغ وتقدم التقنيات والأدوات لدراسته صار ينظر إلى التعلُّم على أنه تفكير تارة، وتارة أخرى ينظر إلى أن التعلُّم تذكر.

فالتعلُّم (Learning) يمكن أن يتم بطرائق مُتعدِّدة لعل أسهل أنواع التعلُّم ذاك الذي يؤشر على تناقص احتمالات أن يعطي المُتعلِّم الاستجابة (Response) نفسها كلما تعرّض للمثير نفسه.

أي أن المثير (stimulus) يفقد قدرته على حفز المُتعلِّم إلى إعطاء الاستجابة (Response). مثل هذه الحالة تعزى إلى اعتياد التعلُّم (Habituation) المثيرَ.

 ولقد أمضى علماء النفس ردحاً طويلاً من الزمن وهم يدرسون التعلُّمLearning)  )، فكشفوا عن مبادئه، والعوامل المؤثرة فيه، والاستراتيجيات التي تُفعِّله، والعلميات المعرفيَّة والانفعاليَّة والسلوكيَّة التي تشكل أهداف عمليَّة التعلُّم، ودور الدماغ في عمليَّة التعلُّم، وكيف تتعلَّم الخلية العصبية، وكيف تتكوَّن الشبكات العصبية، وكيف تتآزر مواضع الدماغ المختلفة على إحداث عمليَّة التعلُّم في نظام فريد مذهل، ودور الدافعيَّة إلى التعلُّم حتى قيل "أن لا تعلم بدون دافع"، وكيف نتعلَّم اللغة، ونكتسب المعرفة. كيف نتذكر وكيف نعبر عن انفعالاتنا... الخ.

إن نواتج أبحاث التعلُّم Learning)) التي تراكمت عبر ما يزيد عن (125) عاماً من البحث العلمي، أفرزت العديد من نظريات التعلُّم Learning Theories)) هذه النظريات تميل إلى تقاسم ثلاث فرضيات:

  • الفرضية الأولى: أن الخبرة تشكل (Shapes) السلوك.
  • الفرضية الثانية: أن التعلُّم تكيّف.
  • الفرضية الثالثة: أن التجريب المخطط له قادر على الكشف عن مبادئ التعلُّم.

إن منظري التعلُّم (Learning) يعتقدون بأن طريقة اختبار نظريَّة التعلُّم تتمثل في التأكُّد من أن التوقعات المنطقيَّة المستخلصة منها تظل صادقة عند فحصها في المختبر. ولقد سيطرت أبحاث التعلُّم (Learning) على أجيال الباحثين عبر القرن العشرين فقد حرص علماء النفس على تطبيق نظريات التعلُّم في الغرفة الصفيَّة لتجويد عمليَّة التعلُّم ونواتجها، كما طبقت في العيادات لمحو الآثار السلبيَّة المُتعلِّمة، ووظفت لفهم عمليات التعلُّم بأنواعها الثلاثة السلوكي والمعرفي والانفعالي.

 

مفهوم التعلُّم (Definition Learning):

يولد الإنسان وهو مزود ببعض السلوك الفطري، الذي يمكنه من الحفاظ على حياته واستمرارها، كالأكل والنوم والشرب والإخراج والجنس والبكاء، والملاحظ أن سلوك الأكل والشرب والإخراج والنوم وهو السلوك الشائع لدى الإنسان في بداية حياته، فهو يعيش ضمن هذا السلوك فقط، ولا يستطيع أن يؤدي أنواعاً أخرى من السلوك، لأن المهم في هذه المرحلة أن يعيش ويحافظ على بقائه، لكن مع مرور الوقت نلاحظ أن هناك أنواعاً أخرى من السلوك بدأت تظهر في حياته.

إذا وازنّا بين سلوك الوليد، وسلوك الطفل، في المرحلة الابتدائيَّة، نجد أن فارقاً كبيراً جداً بين الاثنين، فطفل المرحلة الابتدائيَّة يستطيع القيام بأنواعٍ كثيرةٍ من السلوك والتي لم يكن يستطيع القيام بها وهو في مرحلة المهد.

وفي الوقت نفسه إذا وازنّا سلوك الطفل في المرحلة الابتدائيَّة بسلوكه وهو في المرحلة الثانويَّة، نجد أن سلوكه في المرحلة الثانويَّة يختلف كماً وكيفاً عن سلوكه في المرحلة الابتدائيَّة، حيث إن سلوكه في المرحلة الثانويَّة أصبح على درجة عالية من التعقيد، وأصبحت قدرته على التعامل مع مواقف الحياة المختلفة تأخذ شكلاً من التنظيم والتنسيق.

وهكذا يرتقي الإنسان بسلوكه من مجموعة السلوك الفطري إلى عدد غير محدود من الممارسات والاستخدامات العقليَّة. إن هذا التغيُّر والإرتقاء في السلوك هو الذي يميز الإنسان من بقية الكائنات. ففي الوقت الذي تظل الكائنات فيه وتبقى على سلوكها الفطري والغريزي، يرتقي الإنسان بسلوكه من أدنى درجات التعقيد. وهذه أبرز الخصائص والصفات التي يمتاز بها الإنسان.

 لكن كيف يتم له ذلك وما الأساليب التي يتبعها الإنسان للارتقاء بسلوكه من البساطة إلى التعقيد؟ إنها القدرة على التعلُّم (Learning) والتي كلما طورها الإنسان استطاع أن يرتقي أكثر فأكثر.  ولهذا من المهم أن نتعلَّم كيف نتعلَّم؟

 

تعال معنا لتتعرف على عمليَّة التعلُّم Learning)) ولتتعرَّف على أبرز ما توصل إليه علماء التعلُّم حول عمليَّة التعلُّم.

حيث يختلف الباحثون في ميادين التربية وعلم النفس في تحديد معنى التعلُّم (Learning) وتفسيره، إلا أنهم يتفقون على أن "التعلُّم (Learning) هو العمليَّة التي نستدل عليها من التغيُّرات التي تطرأ على سلوك الفرد أو العضويّة، أو التفاعل مع البيئة أو التدريب أو الخبرة".

قد يبدو هذا التعريف بسيطاً أول وهلة، ولكنه غني في مدلولاته وناتج عن دراسات وبحوث معمقة في مجال دراسات عمليَّة التعلُّم (Learning). ومن المهم للمهتم بدراسة التعلُّم أن يدرك مدلولاته ويحيط بمُحدِّداته، حتى يتسنى له أن يفرق بين ما هو تعلم وما هو خارج عن عمليَّة التعلُّم حسبما اصطلح عليه علماء التعلُّم. وحتى ندرك محددات هذا المفهوم فلا بد من مزيد من الشرح للوقوف على بعض المحكات المُستخدَمة في تحديد هذا المفهوم للتعلُّم (Learning).

 

فالدكتور عبد المجيد نشواتي في كتابه "علم النفس العام يرى " أن من أهم هذه المحكات لتحديد مفهوم واضح لعمليَّة التعلُّم الآتي":

 

  1. يشير هذا التعريف إلى أن التعلُّم شيء نستدل إليه على نحو غير مباشر، وذلك من خلال بعض التغيُّرات التي تطرأ على السلوك، والتي يمكن رؤيتها وملاحظتها على نحو مباشر، أي أن التعلُّم "استدلال" ولا يمكن ملاحظته بشكل مباشر، وقد لا يبدو هذا الأمر غريباً، إذا عرفنا أن العديد من المفاهيم الفيزيائيَّة، كالطاقة، والقوة، والكتلة، هي "استدلالات" ولا يمكن إدراكها على نحو مباشر.
  2. هناك ارتباط بين الأداء والتعلُّم، فنحن نستدل إلى التعلُّم من الأداء، لكن التعلُّم ليس الأداء ذاته. فقد يحدث التعلُّم في وضع تعليمي ما، ولا يحدث الأداء في وضع آخر، كأن يتعلَّم الطفل مجموعة كلمات جديدة، ويخفق أو يمتنع عن أدائها، لسبب ما، وفي وضع معين.
  3. إن التغيُّرات التي تطرأ على السلوك، والتي تدل إلى التعلُّم، يجب أن تكون نتيجة للتدريب أو الخبرة، وبذلك نستثني من التعلُّم عدداً من التغيُّرات السلوكيَّة التي يمكن أن تنجم عن آثار التعب أو النضج أو الأدوية.

 

وربما كان النضج(Maturation) من أكثر العوامل تأثيراً في تغيير السلوك، ولا بد لنا من طريقة نميّز بها التغيُّرات الناجمة عن النضج، والتغيُّرات الناجمة عن الخبرة أو التدريب. وللقيام بمثل هذا التمييز، يلجأ الباحثون عادة إلى استخدام محكين هما:

أولاً: إذا حدث التغيُّر على نحو منتظم ومطرد وشمل أفراد النوع كله، كالمشي أو الطيران مثلاً، فإن هذا التغيُّر ليس نتيجة التعلُّم وحده، بل هو نتيجة تفاعل معقد بين عمليتي النضج والتعلُّم.

ثانياً: إذا أخفق التدريب في تسريع تعلم مهارة، كتدريب طفل في الثانية من عمره على ارتداء ملابسه بمفرده مثلاً، فإن تعلم هذه المهارة، يعتمد في جزء منه على النضج.

 

يشير التعريف السابق للتعلُّم، إلى أن التغيُّر الذي يطرأ على السلوك، يجب أن يكون ثابتاً نسبياً لنستدل منه على التعلُّم، أي يجب استبعاد كافة التغيُّرات السلوكيَّة المؤقتة وعدم عدّها دليلاً على التعلُّم. فسلوك الفرد قد يتغّير نتيجة التعب أو تعاطي بعض العقاقير أو المخدرات، ولكن سريعاً ما يزول هذا التغيُّر بزوال التعب وزوال آثار العقاقير أو المخدرات.

ولهذا حتى يسمى التعلُّم (Learning) تعلُّماً ينبغي أن يظهر على صورة سلوك قابل للملاحظة ويتصف بدرجة من الثبات بعيداً عن تأثير النمو، والتطوُّر، أو استخدام العقاقير والمنشطات التي يمكن أن تؤدي إلى تغيير مؤقت في السلوك.

ويُعرَّف التعلُّم Learning)) كذلك بأنه "تعديل وتغيُّر في السلوك" وهذا التعريف يُركِّز على أن التعلُّم (Learning) يتضمَّن: التغيير، والتعديل فيما يعرضه المُتعلِّم من سلوك ويمكن تفصيل التعريف بقولنا: إنه "تعديل وتغيير في السلوك نتيجة الممارسة" على أن يكون هذا التعديل والتغيير ثابتاً نسبياً، ولا يكون مؤقتاً مرهوناً بظروف، أو حالات طارئة.

لا يوجد في التعريف ما يشير إلى ربط التعلُّم بالتعلُّم المعرفي، إذ إننا نتعلَّم الاتجاهات، والعواطف، والأحاسيس ونتعلَّم المهارات والحركات، كما نتعلَّم الحقائق والمفاهيم والمبادئ لذلك فإن التعريف يُركِّز على جانب أكثر عمومية، وواقعيَّة لأنه يُركِّز على أي تغير في السلوك ينتج من الممارسة والخبرة.

أما فكرة "أنت بما تتعلَّمه" فإنها تركز على المعنى الحقيقي للتعلُّم لأنه يصعب أن نحدد أي مجال للسلوك الإنساني، لا يخضع لتأثير التعلُّم. أي أن الطفل لا يتعلَّم أن يحسب فقط (3 + 3 = 6) ولكنه يتعلَّم أن يكره العدوان، كما يتعلَّم أن يحب الرياضيات، ويتعلَّم أن يعجب بزميله، الذي يتقن قذف الكرة لتسقط في السلة، ويعجب بصديقة الأخر الذي يستعمل الطرائق المختصرة، لتعلم الحساب بشكل أسرع.

يُؤكِّد تعريف التعلُّم على التغيُّر في السلوك (مع أنه يضم في جوانبه التحسُّن في الأداء) كدليل على حدوث التعلُّم، وأن المُعلِّم الذي ينظم مواقف السلوك والتعلُّم قد لا يستطيع القول إِنّ المُتعلِّم قد تعلم (تغير وتحسن في الأداء) بسبب العرض الذي قدمه المُتعلِّم في الصف، أو لأنه أجاب إجابة صحيحة عن سؤال طُرِحَ عليه، لأن التعلُّم يتطلَّب تغيراً وتحسناً ثابتاً نسبياً أي أنه يبقى ويدوم بعد انقضاء فترة التعلُّم التي مر بها.

كما ينبغي أن يظهر التغيُّر والتحسين في الأداء عند موازنة أداء المُتعلِّم قبل مروره في الخبرة السلوكيَّة بأدائه بعد مروره بها، فإذا كان هناك فروق يمكن القول إنّ المُتعلِّم قد تعلم، فالتغيُّر في سلوك الإنسان يتم من خلال عمليَّة التعلُّم، وما الارتقاء، والتعقيد في سلوكه إلا مظهر من مظاهر التعلُّم، فما التعلُّم؟

يعرف هيلغارد ((Ernest R. Hilgard التعلُّم (Learning) بأنه: "مجموعة التغيُّرات الدائمة نسبياً، والتي تحدث نتيجة مرور الإنسان بخبرة، أو من خلال تكرار تلك الخبرة".

 

من التعريف السابق نجد أن التعلُّم يتضمَّن ما يأتي:

أولاً: لكي يحدث التعلُّم يحتاج الفرد إلى فترة زمنيَّة قد تطول وقد تقصر، حتى يحدث التغيُّر.

والفترة الزمنيَّة هنا هي الفترة التي يمر بها الفرد في الخبرة، ولتوضيح ذلك يستدل على التعلُّم بمعرفة الفروق بين سلوك ما بعد المرور بالخبرة، وسلوك ما قبل المرور بالخبرة، فإذا كان هناك فرق بين الاثنين، أمكننا أن نستنتج حدوث التعلُّم، أما إذا لم يكن هناك فرق بين سلوك ما قبل الخبرة وسلوك ما بعدها فنستطيع أن نقول: إنَّ الفرد لم يتعلَّم.

ثانياً: لابد من أن يتجسد التعلُّم بشكل سلوك (وهو النشاط الذي يقوم به الفرد).

أي أنه لا بد لنا من أن نلحظ التغيرات على سلوك الفرد، وليس على المظاهر الأخرى، كالمظاهر الجسميَّة أو العضلية أوالعضوية فالمقصود بالتغيُّر هنا التغيُّر في السلوك فقط كما تلاحظ بالعين، أو نستدل عليه بوسائل أخرى وكما وضح الشكل السابق نجد الاختلاف بسلوك العد لدى الطفل، حيث أنه أصبح قادراً على العد بعد أن كان يفتقر إلى هذه القدرة.

 

ثالثاً: ضرورة مرور الفرد بخبرة يمكنه من أن يتعلَّم منها، وقد يكفي مروره بالخبرة مرة واحدة أو تكرار الخبرة نفسها، ونقصد بالخبرة هنا موقف التعلُّم. إن عمليَّة التعلُّم تحتم وجود موقف للتعلُّم، يكون الفرد من خلاله نشطاً، سواءً من الناحية الجسميَّة أو من الناحية العقليَّة. وإيجاد الفرد ووعيه لموقف التعلُّم مطلوبان حتى تتم عمليَّة التعلُّم. فلا يمكن أن يتعلَّم التلميذ مثلاً أن يتعلَّم ما يقوله المُعلِّم، وهو شارد الذهن يفكر بشيء آخر لا يتصل بموضوع الدرس.

 

بعد هذا كله يجب أن نتساءل هل يمكن عدّ أي تغيرات في السلوك دلالة على حصول التعلُّم؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، لنتفحص المواقف الآتية، ولنتبين أياً منها يدل على التعلُّم:

  1. زيادة في سرعة الجري لطفل المرحلة الابتدائيَّة.
  2. صعود الطفل الصغير درجات السلم.
  3. خوف الطفل من الطبيب.
  4. تمكن الفرد من الرؤية البسيطة في غرفة مظلمة. بعد انقضاء دقائق عدة، بعد أن يكون قد أمضى بعض الوقت في غرفة مضيئة.
  5. تمكن الطفل من الرضاعة من زجاجة الحليب.
  6. تحول الفرد من حالته الانطوائية إلى حالة من الانبساط، بعد أن تناول مشروباً كحولياً.
  7. تمكن الطفل من تمييز البقرة من الحصان.

 

تعبر هذه المواقف جميعها عن تغييرات سلوكيَّة، لكن هل يمكن عدها جميعها دلالات على حصول التعلُّم؟

في الحقيقة إنه على الرغم من أن جميع هذه المواقف تعد تغيرات سلوكيَّة، وتشبه عمليَّة التعلُّم، إلا أن بعضها لا يمكن تصنيفه. فزيادة سرعة الجري لطفل المرحلة الابتدائيَّة، وتمكن الطفل من صعود درجات السلم ناتجة من نضج عضلاته التي تمكّنه من القيام بهذا النوع من السلوك.

 

ربما كان هذان الموقفان ناتجين من "النضج الفسيولوجي" فلا يمكن عدهما دلالة من دلالات التعلُّم. لذلك يخرج أي سلوك ناتج عن النضج الفسيولوجي عن إطار ومفهوم التعلُّم. وبالمثل نجد أنّ الموقف الرابع يعبر عن تكيف العين لحالة الظلام. وتستغرق هذه العلميَّة بضع دقائق، وليس للفرد أي دور فاعل فيها. لذلك لا تعد دلالة من دلالات التعلُّم. فتكيف العين للظلام، وتكيف الجلد مثلاً للماء الساخن، ليس إلَّا ردود فعل طبيعيَّة لأعضاء الجسم للمواقف البيئيَّة، فتخرج أيضاً من حيث كونها حالات تعبر عن التعلُّم.

 

أما الموقف الخامس، وهو قدرة الطفل على تناول الحليب من الزجاجة، فتعبر عن سلوك غريزي، ليس للبيئة أي دخل فيه، فكما يقوم الطفل بمص زجاجة الحليب يقوم أيضاً بمص أي جسم يقترب من شفتيه. والموقف الغريزي يخرج عن إطار التعلُّم، لذلك لا يمكن عد سلوك مص حلمة زجاجة الرضاعة موقفاً من مواقف التعلُّم، وإذا أمعنا النظر في الموقف السادس نجد أن ما حصل للفرد عند تناوله مشروباً كحولياً ردة فعل ميكانيكيَّة، وما صاحب ذلك من تغير في السلوك لا يمكن عده معبراً عن التعلُّم.

 

يمكن عد المواقف مواقف تعكس حالة التعلُّم وذلك لأن خوف الطفل من الطبيب قد يكون مرجعه إلى خبرة سابقة مرت بالطفل، عندما تألم من الحقنة التي حقنه بها الطبيب. لذلك أصبح سلوك الطفل نتيجة خبرة مر بها، ومن ثم يصبح سلوك الخوف معبراً عن التعلُّم، و بالفهم نفسه يمكننا أن نحكم على المواقف، فلا بد من أن يكون الطفل قد مر بمجموعة من الخبرات التي تعرض فيها لكل من البقرة والحصان، واستطاع أن يميز خصائص كل منهما.

 

وقد يكون الطفل مرّ أيضاً بخبراتٍ تعزيزيةٍ وتصحيحيةٍ لسلوكه عندما كان يستجيب للبقرة والحصان بأنهما شيء واحد، وقد يكون مرَّ بخبرات تعلم من خلالها بأن وظيفة البقرة تزويدنا بالحليب، بينما وظيفة الحصان جر العربات، ومن ثم يدرك الطفل أنهما شيئان مختلفان، ومنه يستجيب لهما بطرائق مختلفة ونستنتج أخيراً نجد أن المواقف، هي التي تعبر عن تغير في السلوك ناتج عن الخبرة.

 

مفهوم التعلُّم بصفته مفهوماً افتراضياً (Learning As Hypothetical Construct)

من تفحص تعريف التعلُّم، يلاحظ تعقد المفهوم الذي تمّ توضيحه، إذ يرى علماء النفس، أن مفاهيم مثل التعلُّم، والقلق، والخوف، والحافز، هي تعابير افتراضية افترضها علماء النفس ليصفوا الحوادث التي تحدث داخل الفرد، حيث إنه ليس هناك أدلة ماديَّة محسوسة، تصف ما يحدث من تغير في السلوك، لذلك استخدموا تعبير التعلُّم بصفته مفهوم، ليدل على التغيُّر في السلوك.

وقد استنتج علماء النفس أن التعلُّم قد يحدث، بملاحظة تغير السلوك، وهذا دليل التعلُّم باستخدام الطريقة التي يستنتجها عالم النفس، حينما يرى شخصاً يخطو جيئة وذهاباً داخل الغرفة، أو يعض أصابعه، أو يتكلَّم بصوت مُتردِّد، بقوله: إن ذلك الشخص شخص قلق.

ويمكن قياس التعلُّم، بقياسات التغيُّر التي تعُّد دليلاً على تغير السلوك (أي التعلُّم).

 

ويمكن أن يمثل بالنموذج الآتي:

الظروف السابقة:

  • السلوك القبلي.

مثال: حاجة الطفل إلى ربط حذائه. الظروف التجريبيَّة:

  • الممارسة والخبرة والتعليم.

مثال: تدريب الطفل على خطوات ربط الحذاء خطوة خطوة وإعطاء تعليمات مرتبة وواضحة

الظروف الناتجة:

  • السلوك البعدي.

مثال: يربط الطفل حذاءه بإتقان.

إن هذا النموذج يُفسِّر عمليَّة التعلُّم، حيث يتغير السلوك من (أ) إلى (ج)، وذلك نتيجة لتأثير الظروف التجريبيَّة (الممارسة والخبرة والتعليم) وبذلك نتمكن من الاستدلال على أن التعلُّم قد حصل داخل المُتعلِّم بالفعل، ويمكن القول: إن مفهوم التعلُّم مفهوم افتراضي، يعني التغيُّر في السلوك والأداء.

وعلى الرغم من أن هذا التعريف يستند إلى بيانات وأدلة، إلا أنه لا يقنع علماء النفس، وبخاصة العلماء الذين يرتكزون على الحقيقة، والتي ترى أن التعلُّم: هو "تغير في كيفيَّة رؤية الأشياء" ويستخدمون عبارات، من مثل "تغير في الميل والقدرة أكثر من تغير في السلوك"، كما أن بعضهم يرى أن التعلُّم يمكن أن يحدث، دون تغير في السلوك، وأن حدوث تغير في السلوك قد لا يكون دليلاً دائماً على أن التعلُّم قد حدث فعلاً.

ويذهب بعض العلماء إلى أن المُتعلِّمين يختلفون في إدراكاتهم ومواضع انتباههم تبعاً لتعرضهم لمنبهات أو المثيرات التي ترد إلى أحوال بيئيَّة أو وراثية، أو اختلاف خلفياتهم أو بيئاتهم الذهنيَّة والتعليميَّة. لذلك فإن نواتج تعلُّمهم (تغيرات في السلوك) قد لا ترد إلى ما تعرضوا له من منبهات مُحدَّدة بالضبط. وبخاصة أن المُتعلِّمين اختياريون فيما ينتبهون إليه، وتختلف درجات انتباههم للخبرات التي تمثل أمامهم واهتمامهم بها، ويترتب على ذلك أن تختلف درجات التغيُّر والتحسُّن في سلوكهم (تعلُّمهم)، لذلك لا يعد الاعتماد على التغيُّر في السلوك دليلاً كافياً لحدوث التعلُّم.

 

ولتوضيح مفهوم التعلُّم يمكن الاستعانة بالتعريفات المختلفة لهذا المفهوم الافتراضي

يعرف كرونبلخ التعلُّم بأنه: "أي تغير دائم نسبياً في السلوك نتيجة للخبرة". ويُعرِّف الدكتور فؤاد أبو حطب والدكتور أمال صادق في كتابهما "علم النفس التربوي" التعلُّم بأنه: "تغير شبه دائم في الأداء، يحدث نتيجة لظروف الخبرة أو الممارسة أو التدريب". 

 

أما رمزية الغريب فترى أن التعلُّم يعني "تعديلاً لسلوك الكائن تعديلاً يساعده على حل مشكلة صادفته وهو يرغب في حلها ".

 

أما ويتيج: فيُعرِّف التعلُّم بأنه: "أي تغير ثابت نسبياً في الحصيلة السلوكيَّة للفرد يحدث نتيجة الخبرة ".

 

من استعراض التعريفات السابقة يمكن التوصُّل إلى ما يأتي:

  1. إن التعلُّم تغيُّر، ويقصد به الانتقال من النقطة التي بدأ بها المُتعلِّم تعلمه، وفي هذا التغيُّر ينتقل الفرد إلى حالة جديدة اكتسب فيها خبرة جديدة.
  2. يوصف هذا التغيُّر بأنه تغيُّر دائم نسبياً في السلوك.
  3. يحدث التعلُّم تغيُّراً في السلوك أي أنه إذا لم يظهر التغيُّر في السلوك فإن ذلك لا يكون تعلماً، ويمكن أن يلمح تأثير المدرسة السلوكيَّة في هذا الاتجاه إذ لا يرون التغيُّر الذي لا يخضع للملاحظة والقياس تعلماً، وهم يُركِّزون بذلك على التعلُّم الإجرائي.

يمكن أن يكون التعلُّم سلوكاً مقصوداً. أي أن التعديل في السلوك يمكن أن يؤدي إلى حل مشكلة تصادفه، سواءً أكانت المشكلة بسيطة من نوع ترتيب المكعبات، أم معقدة من نوع حل المشكلة