رسالة إلى كل من المُعلِّمة والمُعلِّم: حاجات الطّفل التطوُّريَّة

وصف "بياجيه" تفكير الطفل في هذا العمر بالتفكير التصوُّري أو ما قبل العمليات أي لا يستخدمون عمليات عقليَّة منطقيَّة الترقيم التسلسل مثلاً. وقد عَدَّ المؤلف الرّوسي أنّ الأطفال (Kornei Chukovsk) يستخدمون (animism) بمعنى أنّهم يرون الاشياء الجامدة كأنّها حية وعَدَّ الأطفال في سن (2) إلى (5) "عباقرة لغوياً" لماذا؟



لقُدرتهم على استخدام التفكير واللّغة بطرائق جديدة فقد نسمع طفلاً يقول: "لا تغلقي الضوء لأنّي عندها لن أرى كيف أنام" وهذا يُسمى تداخل الحواس حيث تُسمع المشاهد ويتم تذوق الألوان، وتلمُّس الأصوات مألوف في هذه السّن كما أنّ خيال الطفل أكثر خصوبة من البالغ كما قد يصل خياله إلى مرحلة الخيال الصوري بمعنى أنّ الصور الداخليَّة في ذهنه يراها بوضوح الصور الخارجيَّة وهذا المقاربة المجازيَّة والخياليَّة وامتزاج الحواس للعالم هي انعكاس لمرحلة الطفل التي يمر بها جهازه العصبي.

 

وفي الوقت نفسه يملك الطفل وفرةً في التفرعات العصبية (في خلاياه العصبية) تخضع لعمليَّة تهذيب فالبيئة التي يعيش الطّفل فيها هي التي تتحكم بتحديد أيّ التفرعات يتم تعزيزها وأيّ التفرعات يتمُّ التخلي عنها والعوامل العاطفيَّة والاجتماعيَّة لها دورٌ في هذا الموضوع  كما أنّ جهاز الطفل العصبي لم يتم تبطينه أو عزله بشكلٍ كاملٍ ليسمح بالتسيير الفعَّال للدفعات العصبية في الدماغ بمعنى لو أنّك اطّلعت الآن على خلية عصبية فسترى أنّ التفرعات عليه عوازل أو بطانة والبطانة تُسمى (Myelin Sheath) وهذا الأمر هو الذي يجعل الطّفل مختلفاً عن الكبار في الإدراك والتفكير (فيا أيُّها الكبار افهموهم) وفقدان هذه العوازل يُؤدي إلى مشاكل عجيبة (لمن أراد أن يرى فيلماً مبنياً على قصّة حقيقيَّة فعليه أن يشاهد الفيلم الرائع القوي في رأيي "لورنزو أويل" وهو يحكي قصّة طفل يُولد بنقصٍ في تلك البطانة واصرار أمّه بالذات على علاجه وصبرها كالجبال على ذلك نعود إلى موضوع أدمغة الطفل وحاجتها في هذه المرحلة اللعب فقط(.

 

أهمية اللعب:

  • ييسر تطور الطفل البدني والحسي عندما يجري ويحفُر ويمثّل ويرسُم الخ.
  • يطوَّر التعلُّم الاجتماعي باللّعب مع الآخرين باختراع أدوار تراها الطّفلة حولها ومحاولة توليف إن صحّ التعبير مسلكها في اللّعب وحاجات الآخرين ممّن يلعبون معها.
  • يدعم اللّعبُ النّمو العاطفي عندما يسقط الطفل عواطفه المختلفة من خوف وغيرة وبهجة على ألعابه.
  • واللّعب يمثّل وسيطاً بين المُمكن والواقعي فيخلط بين محتوى خياله (الممكنات) بمحتوى العالم الحقيقي (الألعاب والمُكعّبات الخ) وبعملهم الإبداعي يدخلون إلى العالم أموراً عفويّةً وجديدة وفريدة (طبعاً يدمرها الكبار بكونها سخافات ولست أدري من أو ما السخيف؟) فالثلاجة مركبة فضائية ويمكن نقل الفلوس عبر الجوال والسلم يُوصل الإنسان إلى السماء وهكذا، واللّعب قد يكون أهم ما عرفه الإنسان فاللعب عند بعض العلماء هو بداية الحضارات وهو والد أو والدة الشّعر والرّقص والموسيقى بل سبق الثقافة.

 

ويمكن أن نسمع ما قاله الكبار عن اللعب أو كيف عبروا عن انجازاتهم

فهذا نيوتن يقول: "لا أدري كيف أبدو للعالم إلا أني بالنسبة إلى نفسي فيبدو أني كنت فقط كولد يلعب على الشاطئ ثم يجد حصاة أملس من الحصوات العادية او قوقعة أجمل من الحصاة العادية بينما يبقى المحيط الضخم غير مُكتشف أمامي".

 

أما أبو القنبلة النووية فقال: "هناك أطفال في الشوارع يلعبون ويستطيعون حل بعض مشكلاتي في الفيزياء لأنهم يمتلكون أوجه إدراك فقدتها منذ زمن طويل". وأما ألكسندر فلمنج مكتشف البنسلين فيقول: "أنا ألعب بالميكروبات ومن المبهج كسر القواعد".

 

وأنقل كلمة لعباس محمود العقاد قد يكون لها علاقة:

"فما عرف التاريخُ قطُّ أمّة أحسنت الجد ولم تحسن اللهوَ واللّعب وما عرف التاريخ قطُّ أمّةً من أُمم القوة والسيادة لم تكن لها ألعاب ولم يكن لها زعماء في هذا المضمار".

 

فاللعب هو فيضُ الحياة ولن تكون سيادة بغير حياةٍ أولاً ثم فيض في الحياة بعد ذلك لا يلعبُ الإنسانُ وهو عليلٌ ولا يلعب وهو محسورٌ مغلوب ولا يلعب وهو مسلوبٌ المشيئة ولكنّه يلعب حين يصِحُّ وحين يفرح وحين يملك زمامه فيشاء ويفعل ما يشاء فاللّعب والحياة الفائضة صِنوان والسيادةُ والحياةُ الفائضة لا تفترقان.

 

ولو اجتمعت للشيخ حكمة السنُّ وجدّة الطفولة لما منعته الحكمة من أن يلعب ويلهو ولعلّمته بعد ذلك كيف يفتن في لعبه ويزيد في لهوه ويبز فيهما الأطفالَ والشبان.

 

ولكن ما اللعب الذي يعنيه العقاد؟

"فاللّعب الذي نعنيه غير التسلية واللّعب الذي نعنيه غير الرياضة".

 

ما اللعب إذاً؟

أمّا اللعب الذي نعنيه فهو التعبير الملازم لحالة الفيض والإشراق فلا يُراد بعد ذلك لغرض من الأغراض وعلى هذا المعنى يدخل في باب اللّعب ابتكارُ الفنان ووحيُ القريحة وتوقانُ النّفوس إلى العظائم وغرام العقول بالكشف عن المجهول ولألاء الجمال في الوجوه ولألاء الجمال في الأرواح.

 

ويختصر العقاد قائلا:

"وإنما هو تعبيرُ الحياة كلّما امتنع الحائلُ بينها وبين التعبير".

عباس محمود العقاد/ يسألونك

لألاء: أي ضوء السراج