النظرية النمائية لجان بياجيه

سلطان الحارثي:مقدمة في نظرية جان بياجيه نشأتها ومفهومها: نظرية بياجيه من النظريات المعرفيَّة التي تنتمي إلى المدرسة المعرفيَّة، وتُثير هذه المدرسة التساؤلاتِ التالية، وهي: كيف يتعلَّم الفرد؟ وكيف يتذكَّر معارفه؟ وعمَّ يختلف فردٌ عن فرد آخَرَ من معارفه بالرَّغم من أنهما خضعَا لنفس الظروف التعليميَّة؟ وكيف؟ وتضمُّ المدرسة المعرفية نظرياتٍ عديدةً، ولعلَّ أبرزَها نظرية بياجيه التي تؤكِّد أهمية البيئة المعرفية كعمليات إجرائيَّة عقلية في العملية التعليمية. [1]



لقد أثرى جان بياجيه (1896) العالِمُ السويسريُّ المعاصر دراساتِ الطفولة بحقائقَ علمية موضعية حية، هي نتاج بحوث بدأتْ من العشرينيات من القرن الماضي حتى وقتنا الراهن، ويمكن تقسيمُ حياة بياجيه العمليَّة والعلمية إلى ثلاث فترات:


الفترة الأولى:
وتبدأ من عام 1920 إلى عام 1929، ويُسمِّيها هو نفسُه بفترة المراهقة الفكريَّة، وقد انتقد إنتاجَه في هذه المرحلة بأنَّه كان يعتمد على النواحي اللَّفظيَّة أكثر من العملية أو الأدائية، وقد سيطر عليه في هذه المرحلة اتجاهانِ أساسيان، هما: الاتجاه البيولوجي، والاتجاه المعرفي، وحاول أن يُحقِّق تكامُلاً بينهما.


الفترة الثانية:
وقد امتدتْ من عام 1930 حتى عام 1940 وفيها اهتم بدراسةِ تكوين ونموِّ الذكاء عند الأطفال، مستخدمًا أطفالَه الثلاثة الذين وُلِدوا في هذه الفترة، وفي هذه المرحلة كتَبَ كتبًا كثيرة؛ منها: "أصل الذكاء عند الأطفال"، "اللعب والأحلام والتقليد عند الأطفال"، "صياغة الأطفال للواقع"، كما درس بشكل مكثَّف مفهوم (الاحتفاظ)، أو بقاء الشيء على حاله، واستمرار بعض صفاته ثابتة رغمَ تغيُّر المظهر، وقد تميَّزت هذه المرحلةُ بغزارة الإنتاج العِلمي، والكتب التي تناولتْ مفاهيم الزَّمان والمكان، والعدد والسرعة.


الفترة الثالثة:
و قد بدأتْ مع بداية الأربعينيات حتى وفاته 1980، وفيها استثمرَ نتائج الدِّراسات في الفترتين السابقتين في الإجابة على القضايا المعرفيَّة، التي كانت هي الدافعَ له لدراسة الطفل، وهي: طبيعة المعرفة ونشأتها وتطورها.[2]

المفاهيم والعمليات المعرفية الأساسية التي تقوم عليها نظرية بياجيه:
على الرَّغم من ازدِهار عِلم النفس الأمريكي، إلاَّ أنَّ بياجيه خرج بنظرية ورؤية تختلف تمامًا عن تلك النظريات التي تبنَّاها، حيث استخدم بياجيه مفاهيم مختلفة غيرَ التي كانت مألوفة في ذلك الوقت، ونادى بآراء مختلفة، واستخدم منهجًا مختلفًا.

"ويعتمد هذا النَّمطُ بخاصَّة على ما يتعلَّق بتربية صِغار الأطفال ورعايتهم، وتَطوُّرهم المعرفي".[3]


مفهوم النمو عند بياجيه:
هناك اتِّجاهان في التفسير النظري لعلمية النمو:
1 - الاتجاه الميكانيكي: وهذا الاتِّجاه يمثِّل عملية التعلُّم التي تفسِّر التغيُّر في إطار المدخلات والمخرجات، بمعنى أنَّ ما يتعرَّض له الإنسان من مؤثِّرات خارجية يحدث قدرًا من التغيُّر يتناسب مع هذه المدخلات.

2 - اتجاه (النظرة البنيوية): بياجيه يرى أنَّ النمو يتميَّز بظهور أبنية جديدة، وهي الأبنية، ليست إضافات كمية فحسبُ، بل تُعتبر تغيُّرًا في التنظيم، فإذا نظرْنا - مثلاً - إلى كيفية اكتساب الطِّفل اللُّغةَ نجد أنَّ الاتجاه الميكانيكي يرى أنَّ النموَّ يحدث كميًّا، فمِن استخدام كلمة إلى كلمتين إلى ثلاث إلى الجملة... إلخ.

أمَّا الناحية البنيوية، فإن الانتقال هذا يُعتبر عمليةَ إعادة تنظيم أساسيَّة في الأنظمة المعرفية والسَّمعيَّة، التي تؤدِّي إلى تكوُّنِ البناء التالي، ورغم أنَّ كل بنية تتأثَّر بالبنية السابقة عليها، وتأخذ منها عناصرَ، وتُضيف إليها عناصرَ جديدة، فإنَّه ليس هناك اتِّصال بالمعنى المتعارَف عليه.

وينتمي بياجيه إلى الاتِّجاه البنيوي الذي يُفسِّر النموَّ بناء على التغيرات الكيفية التي تحدث في البنية العضوية، التي تُقابِلُها بها تغيرات من الناحية السلوكية.[4]


النمو العقلي عند جان بياجيه:
اهتمَّ بياجيه منذُ البداية بأصلِ المعرفة، والكيفية التي من خلالها تتطوَّر مثلُ هذه المعرفة؛ ونظرًا لتخصُّصه في مجال البيلوجيا، فقد أدرك إمكانيةَ توظيف مفاهيم ومبادئ علومِ الأحياء لدراسة النموِّ المعرفي لَدَى الأفراد؛ ولذلك نرى اهتمام بياجيه انصبَّ على مسألتين رئيستين:
أ- كيف يُدرِك الطفل هذا العالَم، والطريقة التي يُفكِّر مِن خلالها بهذا العالَم؟
ب- كيف يتغيَّر إدراك وتفكير الطِّفل بهذا العالَم من مرحلة عمريَّة إلى أخرى؟[5]

والنمو العقلي عند جان بياجيه لا ينفصل عن النموِّ الجسمي، وذلك لأنَّ عوامل النموِّ لا تقتصر على دِراسة النُّضج البيولوجي، فهناك عواملُ أخرى لا تقلُّ أهميةً، وهي التدريب واكتساب الخِبرة والتفاعُل الاجتماعي، والنمو العقلي عند بياجيه يمرُّ بثلاثِ مراحلَ متتالية؛ وهي: المرحلة الحِسيَّة الحركيَّة، مرحلة الحركات المحسومة والعيانية، مرحلة العمليات الصوريَّة والشكلية، وتتميَّز هذه المراحل بما يلي:
1 - أنَّ نظام تتابعها ثابتٌ، رغم أنَّ متوسط التي تحدث عنها يختلف من فردٍ لآخرَ وَفقًا لدرجة ذكائه، أو الحالة الاجتماعيَّة، ممَّا ينشأ عنه إسراعٌ أو إبطاء، لكن التتابُع يظلُّ ثابتًا.
2 - تتميَّز كلُّ مرحلة ببيان شامل، يمكن من خلاله تفسير الأنماط السلوكيَّة الرئيسة.
3 - هذه البنية العامَّة والشاملة متكاملة، ولا تحلُّ أحدُها محلَّ الأخرى، فكلُّ واحدة تنشأ عن سابقتها، وتدمجها فيها كبنية فرعيَّة، ثم تُهيِّئ نفسَها للمرحلة التالية، وسرْعان ما ستندمج فيها.[6]


عوامل النمو العقلي والمعرفي عند بياجيه:

يفترض بياجيه أنَّ النموَّ العقلي والمعرفي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعددٍ من العوامل تتمثَّل في الآتي:

أولاً: النضج:
يعتقد بياجيه أنَّ النضج عاملٌ من عوامل الارتقاء المعرفي، وأنَّ الإسهام الرئيسَ للنضج في الارتقاء المعرفي هو في النموِّ العصبي، وفي نموِّ جهاز الغُدد الصم، وإذ يلعب دورًا واضحًا في الارتقاء.[7]

وعامل النضج يُساعِد على تكوين الأبنية المعرفيَّة التي تتحدَّد أنماط السُّلوك الفعَّالة حيالَ هذه المثيرات، وتجدر الإشارة هنا، أنَّه بالرغم من أهمية النُّضج في حدوث النموِّ المعرفي لَدَى الأفراد، إلاَّ أنَّ هذا العامل غيرُ كاف وحدَه لإحداث مثل هذا النموِّ، ويمكن أن يظهر دوره البارز في تهيئة الفرْد من متابعة عمليات النموِّ والدخول في المراحل على نحوٍ متسلسل ومنتظم.[8]

ثانيًا: الخبرات الفيزيائية:
الطفل الذي يتعرَّض للخِبْرات الفيزيائيَّة أكثرَ من أقرانه يكون أسبقَ منهم في الانتقال من مرحلة إلى أخرى؛ لأنَّ الأعمال الفيزيائيَّة طبقًا لبياجيه نوعان من الخبرة؛ هما: الخبرة الفيزيائيَّة، وهي الخبرة التي تتطلَّب العملَ العضلي، والخبرة المنطقيَّة الرياضيَّة، والتي تظهر في التعالُم مع الأشياء، بقَصْد معرفة نتائج النشاط. [9]

ثالثًا: التفاعل الاجتماعي:
ويعدُّ التفاعل الاجتماعي عاملاً آخرَ في الارتقاء المعرفي، ويعني بياجيه بالتفاعل الاجتماعي تبادُلَ الأفكار بين الناس.[10]

ويشمل التفاعلُ الاجتماعيُّ التفاعلَ الفكريَّ والعقائدي والثقافي والإبداعي، فكلُّ هذه التفاعلات التي تحدُث تُساهِم في حدوث النموِّ المعرفي لَدَى الأفراد، إذ مِن خلال التفاعُل يتعلَّم الفرْد اللُّغةَ والثقافة، وأنماط السُّلوك الاجتماعي، والعادات والتقاليد والأخلاق، والعديد من المهارات.[11]

رابعًا: عامل التوازن:
يَعتبِر بياجيه مبدأَ التوازن هو الآلية التي تُوازِن بين العوامل الثلاثة السابقة، ويَرى أنَّ الإنسان دائمًا يبحث عن الاتِّزان، وسرْعانَ ما يبدأ في البحث عن إجابات لتساؤلاته، إذا ما فقد هذا الاتِّزان.[12]

وتعدُّ فترة التوازُنِ نزعةً فطرية موروثة تُولَد مع الإنسان، وتُتيح للفرد تحقيقَ نوع من الاتِّزان بين الحصيلة المعرفيَّة السابقة لديه، وبين الخبرات الجديدة التي يواجهها، فمِن خلالها يستطيع الفردُ تدريجيًّا التعرُّف على الكيفية التي يَنبغي أن تكون عليها الأشياء في هذا العالَم، كما أنَّها تجعل الفردَ يُعيد وينظم ويُعدِّل البِِنَى المعرفيَّة الموجودة لديه.[13]


العمليات الأساسية في النمو العقلي:
يَرى بياجيه أنَّ عملية التوازُن هي العامل الهام والحاسم في النموِّ العقلي، ومِن خلالها يَسعى الفرْدُ إلى التخلُّص من حالات الاضطراب والاختلال التي تحدُث بفعْل التفاعلات المستمرَّة، والوصول إلى حالةٍ من الاتِّزان بين بنائه المعرفي وهذا العالَم، وتشمل عمليةَ التوازن على قدرتَين فطريتين؛ هما: قدرة التنظيم، وقدرة التكيف، وهاتان القدرتان تتفاعلان معًا ليُحقِّقَا التواؤم مع البيئة التي يَعيش فيها، ويتفاعَل معها.

أولاً: قدرة التنظيم:
تعدُّ قدرةُ التنظيم نزعةً فطريَّة تُولَد لَدَى الأفراد بحيث تُمكِّنهم من تنظيم خبراتِهم وعملياتهم المعرفيَّة؛ لذلك يَرى بياجيه أنَّ الأفراد يُولدون وهم مزوَّدون ببعض البِنَى المعرفية البسيطة، وبعض الاستعدادات التي تُمكنهم من تنظيم الخبرات الخارجية في ضوء ما يوجد لديهم من تكوينات وأبنية، وعلى هذا المنظور فإنَّ الأفراد يُولَدون وهم مزوَّدون ببعض القدرات التنظيميَّة البسيطة، التي تتطور وتتشابك معًا لتصبحَ أنظمة وبِنى معرفية أكثر تعقيدًا، ومِن خلال قدرات التنظيم يعمل الفرْد على إعادة تنظيم البِنى المعرفية الموجودة لديه أصْلاً.

ثانيًا: قدرة التكيف:
ينظر بياجيه أنَّ التكيُّف نزعة فطريَّة تولد مع الإنسان، وتُمكِّنه من التأقلُم مع البيئة المحيطة به، وتتنوع أساليبُ تفكيره باختلاف فُرص التفاعل التي يمرُّ بها، فكما أنَّ قدرة التنظيم تعمل داخلَ الفرْد، فإنَّ قدرة التكيُّف تعمل خارجَ الفرد، ممَّا يجعله يحقِّق نوعًا من التوازن الخارجي التي يُؤهِّله للعيش والبقاء، ويُعتبر التكيُّفُ الهدفَ النهائي لعملية التوازن، ويتضمن التغيراتِ التي تطرأ على الكائن الحي استجابةً لمطالب البيئة، ويحدث التكيُّف خلال عمليتين؛ هما: التمثُّل، والتلاؤم، وهاتان العمليتان متلازمتانِ، فليس هناك تمثُّل بلا تلاؤم، ولا تلاؤم بلا تمثُّل.

أ - عملية التمثل: تتضمَّن عملية التمثُّل تعديلَ مجموعة من الخِبرات الجديدة بما يتناسب مع البِنَى العقلية الموجودة لدى الفرْد، فعندما يتمثَّل شخصٌ ما خبرةً ما، فهو بذلك يعدل هذه الخبرةَ لتتلاءم مع ما هو موجود لَدَينا من أنشطة، وأبنية عقلية.

وبهذا المنظور يُعتبر التمثُّل عمليةَ تشويه في الواقع الخارجي؛ ليتلاءمَ مع البناء الداخلي للفرْد، حيث يستخدم وَفق هذه العملية البنى المعرفية لديه لتفسيرِ العالَم الخارجي، فعلى سبيل المثال، الطِّفل الذي عندما يرى قطعةً من البلاستك أمامَه فإنَّه يضعها في فمه مباشرةً، يظن أنَّها طعام، باعتبار أنَّ لديه بنية سابقة حولَ الطعام.[14]

ب - التواؤم: والمقصود به هنا هو تعديلُ الاستجابة التي أصدرها الفرْد في عملية التمثُّل، التي أثارها المتعلِّم نتيجةَ جمعه للمعلومات الجديدة، نتجت عن عدم توافق بينهما وبين بيئته الذِّهنيَّة، وهذا يقضي أن يستعيدَ المتعلِّم اتزانَه الذهني، ويعدل بنيته الذهنية، ويَحدُث أحيانًا التعديل للمعلومات التي تلقَّاها بما يتناسب مع خلفيته المعرفية وليس العكس، أمَّا إذا كانت المعلومات جديدةً، فينتج عن ذلك إضافةً للبنية الذهنية للمتعلِّم.[15]


مراحل النمو المعرفي عند بياجيه:
قدَّم بياجيه أربعَ مراحل أساسيَّة للنموِّ المعرفي؛ وهي:
المرحلة الأولى: مرحلة النموِّ العقلي الحِسي الحركي، وتبدأ من الولادة حتى سِنِّ سنتين.
المرحلة الثانية: مرحلة ما قبلَ العمليات، وهي من سن 2 - 6 أو 7 سنوات.
المرحلة الثالثة: مرحلة العمليات العينية أو الملموسة، وهي من سِن 6 أو 7 سنوات إلى 11 و12 سنة.
المرحلة الرابعة: مرحلة العمليات المجرَّدة، وهي من سِن 12 إلى 15، حيث يتمُّ اكتمالها.[16]


المرحلة الأولى: معرفة النمو الحسي الحركي:
وهي المرحلة التي يستخدم الطفلُ فيها الأشياء المحسوسة التي يتلقَّاها من العالم الخارجي، ويتعامل معها حركيًّا عن طريق يديه وعضلاته، وهي تبدأ من الولادة إلى سِنِّ الثانية.[17]

وعند بداية نُقطة هذه المرحلة يتمسَّك الوليد بكلِّ شيء؛ ليمتلكه أو ليمتلكه جِسمُه، وحين تتوقف هذه الفترة، وتبدأ لغة التفكير، لا يكون عمليًّا إلاَّ عنصرًا أو كيانًا وسطَ عناصر وكيانات في عالَم بنائه بنفسه تدريجيًّا، وسيُجرِّبه من هنا فصاعدًا بكونه خارجًا بالنسبة إليه.[18]


ويُقسِّم بياجيه هذه المرحلة إلى عدَّة جوانب؛ وهي:
1- جانب المرونة العضلية:
ويتمثَّل هذا الجانب بقيام الطِّفل بحركات عشوائية في البداية، وهي حركات غير متعلَّمة ولا منتظمة، ثم بعد ذلك تميلُ هذه الحركات إلى الاستقرار، وهدفها الإتقان والدِّقة في أداء العمل، والحركات العشوائيَّة التي يقوم بها الطفل في بدايته بالرأس والعينين واليدين والقدمين، كإمساكِ الطفل في بدايته للرضَّاعة، وحركة مصِّ الإصبع، وغيرها من الحركات العشوائية غير المنتظِمة، ثم تستقر عملية الإمساك بشكلٍ منظَّم كلَّما تقدَّم الطفل في العمر، وهذه المرونة العضوية ترتبط بعلاقات غيابية مع الجِهاز العصبي، من خلال تطوير عمل هذا الجِهاز مع نموِّ الطفل بشكل مستمر.

2 - جانب التكيف الداخلي:
يتضمَّن هذا الجانب قيامَ الطفل بتكييف أعضائِه الجسميَّة؛ لتستجيبَ للمنبهات الخارجية التي يتعامل معها في بداية عُمره عن طريق الفم، كتحريك الشَّفتَين وعضلات الفم التي يُمكن ملاحظتُها على الطفل بشكل واضح، متوافقة مع إفرازات الغُدد اللُّعابيَّة، وهي مؤشِّرات لتكييف أعضاء الجسم التي تتعامل مع الطعام الذي يُقدَّم للطفل، وهذه العَلاقة بين المنبه الخارجي والأعضاء التي تتعامل معه أيضًا ترتبط بنموِّ وتطورِ الجهاز العصبي عند الطِّفل.

3- جانب المواءمة:
يتضمَّن هذا الجانب موائمةَ الطِّفل بين الحركات العشوائية التي يقوم بها، والمؤثِّرات البيئيَّة التي يواجهها، وينتجُ عن هذه الموائمة إدخالُ أنماط جديدة من التفكير تجعل الطفل أكثرَ استقرارًا مع البيئة المحيطة.

4 - جانب التوافق بين الحس والحركة:
يتضمَّن التوافق بين حركات الطِّفل مع إحساساته، بحيث يتمكَّن من الحصول على الأشياء مع البيئة التي تتلاءَم مع إحساساته الداخليَّة، كرفض الطِّفل للأطعمة المرَّة والمالحة، واتجاهه لتناول الأطعمة الحلوة، وهذا دليلٌ على الترابُط بين حركاته وحاسَّة الذوق عندَه، وجميع هذه الجوانب تعمل على تكوين الجانب الحِسي الحركي، والذي يعدُّه بياجيه مظهرًا من مظاهر النموِّ العقلي عند الطفل.[19]


المرحلة الثانية: مرحلة ما قبل العمليات (التفكير التصوري):
و هذه المرحلة تبدأ من نهاية السَّنة الثانية، حتى السنة السادسة أو السابعة، وتتصف هذه المرحلة بخصائص؛ وهي:
1- لا توجد بها عملياتٌ منطقيَّة بصورتها الناضجة، فلا يستطيع الطفلُ إدراكَ مفهوم الاحتفاظ بالكمِّ ثابتًا.
2- تفكير الطِّفل في هذه المرحلة تفكيرٌ انتقالي؛ أي: ينتقل فيه الطِّفل من الخاصِّ إلى الخاص، وليس تفكيرًا استقرائيًّا أو استنباطيًّا. 
3- تفكير الطِّفل في هذه المرحلة مرتبطٌ بالمظهر الخارجي للشيء، فإذا تغيَّر الشكل فإنَّ ذلك يعني تغيُّرًا في الحجم والوزن... إلخ، وبذلك يكون حُكمُه على الأشياء بما يظهر منها، وتنقسم هذه المرحلة إلى فترتين:

الفترة الأولى:
فترة نموِّ اللغة ذات الوظيفة الرمزيَّة، أو مرحلة اللعب الخيالي والرمزي، وهذه الفترة ينمو فيها الجانب اللُّغوي، ممَّا يُساعد على نموِّ التفكير.

الفترة الثانية: فترة التفكير الحدسي أو الذاتي: وهذه الفترة تبدأ من سِنِّ 4 إلى 7 سنوات، ويكون التفكير في هذه المرحلة غيرَ منطقيٍّ ومتمركزًا حولَ بُعْد واحد، أو حول علاقةٍ واحدة في الوقت الواحد، مثال ذلك: إذا شكلت إحدى كرتين من الطِّين متساويتين في الكمية أو الوزن، ولكن أحداهما شكلتها بشكل تختلف فيه عن الأخرى، فإنَّه قد يَحكُم بكِبَر إحداهما، وهذا يحصل بسبب ظاهرة التمركُز حولَ بُعْد واحد في هذه المرحلة، فقد نظر إلى بُعْد الطول في تشكيل الطِّين، فحكم بأنَّه أكبر؛ لذا فالتفكير لدَى الطفل في هذه الفترة محدود على قضيتين.

1- الانتباه:
حيث إنَّ الطِّفل لا يستطيع تركيزَ انتباهه لفترة طويلة، ويكون انتباهه من جانب دون جانب، ولكن مدَّة الانتباه تدريجيًّا من ازدياد النُّضج والعمر.

2- الذاكرة:
وهي عملية تعمل على إعادة تذكُّر المعلومات لَدَى الطفل، وهي ما تُسمَّى بالقدرة على الاسترجاع[20].


المرحلة الثالثة: مرحلة العمليات العينية أو المحسوسة:
وتُسمَّى بمرحلة التفكير المنطقي المحسوس، أو بمرحلة المفاهيم الحسيَّة، وتمتدُّ من 6 أو 7 سنوات إلى 12 سنة.
ومن خصائص هذه المرحلة: 
1- القدرة على القيام بالعمليات الاستنباطيَّة والاستنتاجيَّة.
2- مرتبطة بالأشياء الحسيَّة، فيظهر مفهوم الاحتفاظ هنا في الكميات والأعداد.
3- التقليل من التفكير المتمركِز حولَ الذات، والتفكير حولَ بُعْد واحد، فهذه المرحلة تجعل الطالب يدرك الأشياءَ مِن أكثرَ مِن بُعْد.
4- نمو مفهوم التصنيف، وما يتطلَّبه من عمليات التسلسُل، أو تدرُّج الأشياء المتشابهة تبعًا لبُعْد معين، كالحجم أو اللَّون أو الطول، وأهمُّ منجزات هذه المرحلة هي تراكيبها المعرفية، وتتألَّف من أنظمة تشمل كلياتٍ متماسكةً من العمليات القابلة للانعكاس، والتي تمكن من إيجاد التنظيم والثبات بين الأشياء، والإحداث في العالَم المحيط، وحتى تنظيم وتثبيت الأعمال المعرفيَّة العقلية تامَّة متماسكة، وتركيب محدَّد قوي، فإنَّ بياجيه يطلق عليها اسمَ العمليات العقلية.[21]


المرحلة الرابعة: مرحلة التفكير المنطقي أو الصوري:
وفيها يتمكَّن الطفل من إدراك المفاهيم المجرَّدة - مثلاً - عندما يتمكَّن الطِّفلُ من معرفة  مفهوم العدالة والصِّدْق، ويربط هذه المفاهيمَ بمواقفَ محسوسةٍ، يكون قد دخل في هذه المرحلةِ، والتي عادة ما تظهر من عمر 12 سنة فما فوق.[22]

ويقرِّر بياجيه أنَّ في هذه المرحلة يتمُّ إدراك المفاهيم السابقة في مرحلة التفكير العيني بصورة مجرَّدة، وهذا هو الفرْق بين هذه المرحلة والتي قبلها، فالمفاهيم في هذه المرحلة موجودة، لكنَّ الصورةَ التي يتمُّ التفكير بها في هذه المفاهيم تكون مختلفة.[23]

ويرى بياجيه كذلك أنَّ الطفل في عمر 12 سنة يكون قادرًا على التفكير الاستدلالي، فهو يستطيع أن يرى المشكلةَ، بأن يأخذَ - وبشكل منظَّم - جميعَ الحلول الممكنة لها بَعد أن تُطرح جميعُ الحلول أمامه، فيقوم باختيار أحدِ الحلول بشكل معقول.[24]


تقويم نظرية بياجيه:
كانت معظمُ النتائج التي توصَّل لها جان بياجيه تحمل من الإيجابيات الشيءَ الكثير، ولكن لا تحول دون إيراد بعض القُصور في هذه النتائج؛ ومنها:

أولاً: أنَّنا نجد من الصُّعوبة تصوُّر العلاقة بين (البنية المعرفية)، والسلوك والأداء؛ لأنَّ أصحاب هذه النظرية لم يُبيِّنوا كيفيةَ تحويل البِنى المعرفية إلى أداء وسلوك، ويفترضون أنَّ هذا التحوُّل يكون على نحوٍ آلي؛ لذلك يُهملون الجانب الأدائي، ويركِّز على القدرات المعرفية، كالفَهْم والتمييز والمحاكاة.

ثانيًا: التعلُّم البنائي أهمل - إلى حد ما - أثر الدافعية (التعزيز والعقاب) في التعلُّم، ويرى أصحابُ هذه النظرية أنَّ الدوافع تكون ذاتيَّةً وداخليَّة، فالطفل من خلال انهماكِه في النشاطات التعليميَّة يُمكِنه تطوير المخطَّطات المعرفية التي تُسهِّل عليه عمليةَ التكيُّف المناسب، الذي يُحقِّق له التوزان بينه وبين بيئته.

ثالثًا: أنماط التعلُّم البنائي تعمل على تمكُّن المعلِّمِ من التنبؤِّ بأنماط استجابات المتعلِّم وسلوكه، وعليه أن يستنتجَ ذلك من خلال المعالجات التي يُمارسها حيالَ المواد والخبرات المتوافرة لديه، التي تحكمها عادةً بنيتُه المعرفية الراهنة؛ لذلك يصعُبُ على المعلِّم استخدامُ أنماط سلوكيَّة تمكِّنه من التنبؤِّ بإستراتيجيات المتعلِّم التفكيريَّة.

رابعًا: لَمَّا كان التعلُّم معنيًّا أصلاً بتغيُّر سلوك المتعلِّم عن طريق معالجة الشروط الطبيعيَّة والاجتماعيَّة للبيئة التي يتفاعل معها، فإنَّ النظرية التطويرية لا تُزوِّد المعلِّم بوصف دقيق للمتغيرات البيئية التي تنتج تغيرات حقيقيَّة للبنية المعرفية.

خامسًا: اتَّهم بيتر براينت ومجموعةٌ من النقَّاد بياجيه بعدم تقدير تفكير الأطفال تقديرًا كافيًا، حيث قدَّم براينت أدلة توحي بأنَّ الأطفال دون مرحلة الإجراء المحسوس (دون سن السابعة) يمكن أن يقوموا بالاستنباط، ووجد أنَّ الأطفال في سِنِّ الخامسة يمكن أن يُدلِّلوا عن طريق استبعاد العناصر التي تُشكِّل عبئًا على الذاكرة.

سادسًا: تحدَّى تشارلز برينارد بياجيه حولَ المبالغة في تفسير التفكير عندَ الأطفال، وفي رأيه ليس هناك حاجةٌ لافتراض قيام مراحلِ التطوير؛ لأنَّ مفهوم المراحل ذاته هو مفهومٌ تافه.

سابعًا: شَكَا الكثير من الباحثين من أنَّ الطريقة التي يتبعها بياجيه في تحديد المعرفة التطويريَّة ليست طريقةً دقيقة بدرجة كافية.

ثامنًا: أنَّ طريقةَ البحث عند بياجيه كانت فرديَّةً، وقائمة على الانطباع الذاتي أكثر من أيِّ شيء آخر.[25]

 

 المراجع:

- الأسدي، غالب، (2008)، مقال نظرية النمو العقلي لجان بياجيه وتطبيقاتها التربوية، على الرابط     - بياجيه، جان، (1986)، التطور العقلي لدى الطفل، ترجمة: سمير علي، دار ثقافة الأطفال للنشر والتوزيع.  - جاسم، محمد، (2004)، نظريات التعلم، دار الثقافة للنشر والتوزيع. - الزغلول، عماد، (2003)، نظريات التعلم، دار الشروق للنشر والتوزيع. - عبد الهادي، جودت، (2007)، نظريات التعلم، دار الثقافة للنشر والتوزيع. - الكناني، ممدوح الكندري، أحمد، (1992)، سيكولوجية التعليم وأنماط التعلُّم وتطبيقاتها النفسية والتربوية، مكتبة الفلاح. - مرعي، توفيق، الحيلة، محمد، (2002)، طرائق التدريس العامة، دار الميسرة للنشر والتوزيع.  - واردزورث، بي، (1990)، نظرية بياجيه في الارتقاء المعرفي، ترجمة سعد الأسدي، صالح حميد، فاضل الإزيرجاوي، طباعة ونشر: دارالشؤون الثقافية العامة. ـــــــــــــــــــــــ [1]   جاسم محمد، (2004)، (167). [2] الكناني، ممدوح، الكندري، أحمد، (1992)، (607 - 608). [3]   مرعي، توفيق، الحيلة، محمد، (2002)، (166). [4]   الكناني، الكندري، (1992)، (609). [5]   الزغلول، عماد، (2003)، (213). [6]   الكناني، الكندري، (1992)، (610-611). [7]   واردزورث، (1990)، (37). [8]   الزغلول، عماد. (2003)، (214). [9]   جاسم، محمد. (2004)، (181). [10]   واردزروث، (1990)، (37). [11]   الزغلول، عماد، (2003)، (215). [12]   جاسم، محمد، (2004)، (181). [13]   الزغلول، عماد، (2003)، (216). [14]   الزغلول، عماد، (2003)، (219). [15]   جاسم، محمد، (2004)، (183). [16]   الكناني، الكندري، (1992)، (627). [17]   الأسدي، غالب، (2008). [18]   بياجيه، جان، (1986)، ترجمة سمير علي، (17). [19]   الأسدي، غالب، (2008). [20]   الكناني، الكندري، (1992)، (630). [21]   الكناني،الكندري، (1992)، (633 - 634). [22]   الأسدي، غالب، (2008). [23]   الكناني، الكندري، (1992)، (634). [24]   جاسم، محمد، (2004)، (189). [25]   عبدالهادي، جودت، (2007)، نظريات التعلُّم، (197 - 199) بتلخيص. موقع الألوكة