المنهج وعلاقته بالتغيُّر الاجتماعي

عندما تضع فئة من المُفكِّرين التربويين منهاجاً معيناً، لفئة من التلاميذ تعيش في مكان وزمان معينين، فإنه يجب على هؤلاء المُفكِّرين آن يدرسوا حالة التلميذ والمُعلِّم والمادة المقدمة، في ضوء الثقافة العامة للمجتمع، ثم دراسة المشاكل التي تواجه تلك الفئة من الناس واحتياجاتهم وأهدافهم وغاياتهم وهذه الدراسة تتم في ضوء الأهداف التربويَّة التي يسعى المجتمع إلى تحقيقها.



ويمكن أن تجمع الأسس التي تقوم عليها المناهج فيما يأتي:

  • الأسس التاريخيَّة.
  • الأسس الفلسفيَّة.
  • الأسس الاجتماعيَّة.
  • الأسس النفسيَّة.

على أن ما تهمنا في هذا البحث هي الأسس الاجتماعيَّة فمن العوامل الرئيسة التي يجب مراعاتها عند إعداد المناهج هي دراسة حاجات المجتمع الثقافيَّة والاجتماعيَّة المختلفة لتوفير الحياة المناسبة لجميع أفراده، ويجب عند إعداد المناهج دراسة المشكلات الخاصة بالمجتمع وتحديد الخبرات التعليميَّة التي يحب أن يدرسها التلاميذ سواء كانت هذه المشكلات اجتماعيَّة كزيادة السكان أم اقتصاديَّة كسوء استغلال الثروات الطبيعيَّة والبشريَّة أم سياسيَّة كتحرير الأرض. وعلى المناهج أن تعرّف التلاميذ بهذه المشكلات وأن تساهم في توعيتهم بها واتخاذ مواقف معينة تجاهها. كما وأن أي قرار بشأن المناهج يجب أن يتم في ضوء القيم الاجتماعيَّة التي تمثل معايير المجتمع ومثله العليا التي يسير على هديها ومن هذه القيم الاجتماعيَّة احترام كل فرد في المجتمع، وتكافؤ الفرص بين الأفراد وتنمية كل فرد تبعاً لاستعداداته والإيمان بقدرة الإنسان على حل المشكلات والتعاون بين الأفراد لخدمة الصالح العام.

 

المنهج والتغيُّر الاجتماعي:
تمر المجتمعات بتغيُّرات مختلفة من حيث العناصر الثقافيَّة التي تتناولها ومن حيث مُعدَّل سرعتها ولعل ذلك يعود إلى توافر وسائل الاتصال المختلفة بين أرجاء العالم، إلى جانب التقدُّم العلمي الذي أعان على استغلال البيئات الطبيعيَّة وتسخيرها لخير البشريَّة. فليس هناك ثبات مطلق في العلاقات الاجتماعيَّة ومن ثَمّ في المجتمعات فالفكرة السائدة أن كل شيء يتغير في المجتمع هو تغير اجتماعي فالتغيُّر ظاهرة طبيعيَّة تخضع لها كل نواميس الحياة، الأمر الذي دفع البعض إلى الاعتقاد بأنه ليست هناك مجتمعات وإنما هناك عمليات اجتماعيَّة وتفاعلات في تغير مستمر. ويحدث هذا التغيُّر في التراث الاجتماعي عندما تتداخل عناصر جديدة في حياة الناس ولا يحدث التغيير في ظواهر المجتمع المختلفة بنسب واحدة ولكنها تختلف من ظاهرة إلى أخرى ومثال على ذلك: إنه قد تندفع جماعات في التغيير أكثر من غيرها، وقد يتطرف بعض الأفراد في هذا التغيير. ومن الملاحظ أن العناصر الماديَّة في التراث الاجتماعي تكون أسرع من غيرها في التغيير كالعناصر المعنويَّة غير الماديَّة أي (الثقافيَّة) فيعرف ذلك باسم التخلف الثقافي. ومن هذا كله يمكن وضع تعريف عام للتغير الاجتماعي بأنه: أي تحول بنائي يطرأ على المجتمع في تركيبه السكاني ونظمه ومُؤسَّساته وظواهره الاجتماعيَّة والعلاقات بين أفراده وما يصاحب ذلك من تغيرات في القيم الاجتماعيَّة والاتجاهات وأنماط السلوك المختلفة.

 

أنواع التغيُّر الاجتماعي:
من الممكن أن يحدث التغيُّر في أمة من الأمم دون جهد مقصود من جانب المُؤسَّسات الاجتماعيَّة التي تعّد المدرسة إحداها إلا أن مثل هذا التغيُّر يكون بطيئاً وغير منتظم. فتحقيق التغيُّر المنتظم لا يتم دون خطة مرسومة تتآزر المُؤسَّسات المختلفة في العمل من اجل تنفيذها وبذلك يمكن تجنب ما قد تؤول إليه الحال إذا ساءت الأمور دون توجيه. والتغيُّر الاجتماعي قد يكون بطيئاً وخاصة في المجتمعات البدائية ذات العلاقات المحدودة أو المجتمعات المنعزلة جغرافياً واجتماعياً وحضارياً، وهذه النوع الأول من التغيُّر يصعب إدراكه في فترة قصيرة من الزمن.

والنوع الثاني من التغيُّر يمكن أن يحدث بشكل تدريجي وهادئ لأن المجتمع الذي لا يتغير يكون شاذاً. وقد حدث التغيُّر التدريجي في العديد من الأقطار العربيَّة بعد حركات الاستقلال في منتصف القرن العشرين.

أما النوع الثالث من التغيُّر فهو التغيُّر الثوري العنيف وغالباً ما يكون مصاحباً لثورة تعمل على إحداث تغييرات جذرية في الملكيَّة. والعادات والتقاليد والقيم والتعليم. ومن هذه الثورات التي عملت على ظهور تغييرات جذرية في وطننا العربي ثورة (23) يوليو (1952) في مصر والتي غيرت توزيع الملكيَّة وعملت على ظهور طبقات اجتماعيَّة جديدة ونشرت التعليم على نطاق واسع بعد أن كان حكراً على فئة معينة وأنشأت قاعدة صناعيَّة مما أدى إلى ظهور طبقة عماليَّة ضخمة وهذا النوع من التغيير يكون سريعا ويمكن إدراكه بسهولة.


عوامل التغيُّر الاجتماعي:
هناك الكثير من العوامل تتضافر معا وقد تُحدِثُ في المجتمعات عدداً من ألوان التغيُّر في الوسائل والأدوات والأساليب التي يستخدمها الناس في معيشتهم كأفراد وجماعات ومن هذه العوامل:

  1. التحدي البيئي: إن الإنسان يبذل كل ما في وسعه للتصدي للتحدي البيئي والوصول إلى التوافق بين البيئة وبين طبيعته البيولوجيَّة وعمليَّة التوافق هذه في حركة مستمرة لأنه يقع بين الحين والآخر فريسة لهذه البيئة وقسوتها. وعلى الرغم من التقدُّم العلمي والتكنولوجي الذي وصل إليه الإنسان إلا أنه ما زالت تتحداه نكبات الزلازل والبراكين والأوبئة مما يجعله يحاول تشديد سيطرته على البيئة الطبيعيَّة مما يؤدي إلى حدوث التغيُّر الاجتماعي نتيجة لهذا كله.
  2. التقدُّم العلمي: إنّ تقدم العلوم وتطبيقها تطبيقاً علمياً واسعاً في جوانب الحياة المختلفة يؤدي إلى استكشافات واختراعات تستخدم في شؤون الحياة ويترتب على ذلك آثار واسعة مُتنوِّعة في النواحي الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة.
  3. سهولة اتصال المجتمع بعدة مجتمعات إما بحكم الجوار وإمّا بحكم استخدام وسائل المواصلات الحديثة والسريعة وما يترتب على ذلك من زيارات ورحلات أو هجرات مما يؤدي إلى التغيُّر في عادات الناس وفي اتجاهاتهم النفسيَّة وفي أنماط سلوكهم.
  4. التبادل التجاري: إن التبادل التجاري يترتب عليه استخدام منتجات وأدوات ووسائل مختلفة في شؤون الحياة ويتطلَّب هذا التبادل اتصالاً بين أفراد المجتمع والمجتمعات الأخرى ومع مرور الوقت يؤدي إلى تنقُّل أساليب الحياة ومهارات وعادات معينة ما بين المجتمعات المختلفة.
  5. الاتصالات الفكريَّة بالمجتمعات الأخرى عن طريق الصحف والمجلات والكتب والنشرات والتقارير والإذاعة والسينما والصور والرسوم فيترتب على هذه الاتصالات تغير في الاتجاهات الفكريَّة وفي النظر إلى شؤون الحياة.
  6. العامل السكاني: يُعَدُّ العامل السكاني مهما في التغيُّر من حيث زيادة السكان وارتفاع مستوى التعليم بينهم والذي يزيد في الضغط على الوظائف والمنافسة الشديدة على فرص العمل وتؤدي عمليَّة هجرة السكان من الريف إلى المدينة إلى ظهور مشكلات عدة مثل الازدحام في المدن وعدم كفاية الخدمات العامة مقابل تخلخل السكان في الريف وضعف الإنتاجية الزراعيَّة.
  7. ظهور شخصيَّة قويَّة: كظهور قائد أو مصلح كبير يكون له أثره الواضح في توجيه ودفع المجتمع إلى بلوغ أهداف عامة جديدة وإصلاح العيوب القائمة فيه والمحافظة على القيم الموجودة وتنميتها.
  8. الثورات والحروب: تعمل الثورات الداخليَّة على الإسراع في عمليَّة التقدُّم والتغيير في العديد من المبادئ والأفكار التي كانت منتشرة في المجتمع لفترة طويلة واستبدال أخرى جديدة بها فمثلاً عملت الثورات الفرنسية والأمريكيَّة والروسية والمصرية على إجراء تغيرات فكريَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة في شتى الميادين. أما الحروب فتؤدي إلى حدوث تغييرات في واقع المجتمع وأهدافه ومبادئه وما تطلبه من استعداداتٍ ماديَّة وفكريَّة من قِبَلِ المجتمع للتصدي لأخطار الأعداء ودفعها فيتعرفون نواحي الضعف ويضعون الخطط لعلاجها فمثلا أدت الحربان العالميتان إلى حدوث تغيرات اجتماعيَّة في العالم.
  9. الاستعمار العسكري الثقافي: إن هذا النوع من الاستعمار له أثر كبير في التغيير فتعمل الدول المستعمرة على نشر ثقافتها وعاداتها وتقاليدها على أفراد البلاد المستعمرة من أجل تحقيق العديد من أهدافها وإحداث تغيير في هذه البلاد.

دور المدرسة في التغيُّر الاجتماعي:
إن المدرسة هيئة اجتماعيَّة تساهم في تحقيق أهداف وقيم المجتمع ولكن هل يقتصر عملها على نقل التراث الثقافي وإمداد الأفراد بالقيم والأساليب التي يوافق عليها المجتمع، أم أنها تعمل على تغيير السلوك والنظم الاجتماعيَّة وتطويرها؟ إن دور المدرسة الاجتماعي على علاقة وثيقة بالفلسفة السائدة حيث يشير كثير من المربين إلى أن المدرسة تعمل على نقل التراث الثقافي للجنس البشري من جيل إلى جيل كما يوافقون على أنها تستطيع وتغير وتعدل قواعد السلوك لمُتعلِّميها. فمثلا العالم "كلارك" يقول "إن المدرسة تستطيع تعديل السلوك الاجتماعي لتلاميذها وإنّ هذا التعديل يؤدي إلى تحسين نوع المعيشة في المجتمع" أما العالم "تشارلز ريتر فيقول: "أن السلوك الاجتماعي للتلاميذ يمكن أن يتغير إذا هدف التعليم إلى تحقيق هذا التغيير".

ويعتقد هؤلاء المربون بأنّ السلوك الاجتماعي يتغيَّر عن طريق إدخال الخبرات التعليميَّة الصالحة في المناهج وعن طريق أوجه النشاطات المختلفة وطرح المشكلات المهمة التي يعاني منها المجتمع وتعليم الطلاب كيفيَّة إيجاد الحلول المناسبة لها ،أما العالم "رالف لينتون" فهو يوضح قدرة التربية على إحداث تغير ثقافي أساسي من خلا ل قوله: "إنّ من غير المحتمل أن يتمكَّن المربي من إحداث أي تغييرات كبيرة في ثقافة المجتمع وإنّ قيام المدرسة بقيادة التغيُّر الثقافي وإحداث تغير فيه أمر صعب خاصة وأن المدرسة كانت دائما انعكاسا للنظام الاجتماعي للمجتمع". والمشكلة تحديداً تكمن في مدى قدرة المدرسة على إحداث التغيُّر الاجتماعي المرغوب فيه، وقد تكون النتائج التي توصَّل إليها العلماء صحيحة من ناحية واحدة وهي تعديل السلوك الذي ينتج عن تغير مرغوب فيه من قِبل المجتمع ومن قِبل سلطاته القائمة.

ونلمس هذا في جوانب مُحدَّدة كتحسين مستوى المعيشة والمسكن والصحة والعلاقات الشخصيَّة والاشتراك في الأمور العامة فهذه الأمور تسمح الثقافة فيها بالتغيُّر إلا أنها لا تشتمل على تغييرات أساسيَّة فالقيم الأصيلة للثقافة، واحتمال قيام المدرسة بهذه التغيُّرات الأساسيَّة ما زال أمراً لم يتفق عليه المربون، فيمكن القول إنّ المدرسة تتبع التغيُّر الثقافي الاجتماعي أكثر من أن تقوم بقيادته فالتربية وسيلة يستخدمها الناس لهدف معيّن وحينما يتغير الهدف تتغيَّر التربية ومع هذا فإن دور المدرسة بوصفها قوة اجتماعيَّة موجّهة تبرز أهميتها في تخريج الطاقات القادرة على قيادة المجتمع والواعية لدورها الإيجابي في حل مشكلاته ومن هنا ندرك ضرورة ربط المنهج المدرسي بالتغيُّر الاجتماعي ومسايرة مظاهره المختلفة ومشكلاته المُتعدِّدة.

 

دور المنهج المدرسي بالنسبة إلى التغير الاجتماعي:
يقع على المنهج المدرسي عبء كبير في توضيح أسباب التغيُّر الاجتماعيَّة والطبيعيَّة والبشريَّة ومدى قوتها وتأثيرها في المجتمع وتحديد أنواع هذا التغيُّر والدوافع التي أدت إلى سيطرة كل نوع من هذه الأنواع على بعض المجتمعات دون غيرها، كذلك لا بد للمنهج من أن يعرض الأمور التي تعيق عمليَّة التغيُّر كي يدرك أنه على الرغم من وجود العديد من عوامل التغيُّر إلا انه قد تفرض بعض القيود نفسها بحيث تُقلِّل من إمكانيَّة حدوث هذا التغيُّر أو تحد من أثره على الأقل، ومن الأمور التي يجب على المناهج المدرسيَّة مراعاتها:

  1. أن يهتم المنهج بما تعلمه الأطفال في داخل أسرهم قبل التحاقهم بالمدرسة حتى يستطيع تصويب ما قد يكون لديهم من أخطاء، وان يراعي مستوى النضج الذي وصل إليه التلميذ وحاجاته وميوله واستعداداته، وبما أن دور المدرسة تربوي مكمل لدور الأسرة فإن على المنهج أن يتيح فرصا مُتنوِّعة للمُدرِّس تساعده على فهم أهم المؤثرات التربويَّة ويستخدمها للتعرُّف على نواحي القوة ونواحي الضعف في تلاميذه.
  2. إن على المنهج أن يستغل علاقات التلاميذ بالآخرين خارج الأسرة كأساس هام في النشط والتوجيه والتعليم وفي الوقت المناسب لنمو التلاميذ، يوجه المنهج المدرسي إلى توسيع نطاق اتصالاته وعلاقاته بالأشخاص والجماعات ويهيئ الفرص التي تساعد على فهم ما في مجتمعه من نشاط وأهداف فهما سليما بل ويتيح المنهج السليم فرصاً مُتنوِّعة لملاحظة الطفل في علاقاته خارج المدرسة وعلى أساس نتائج هذه الملاحظة يوجه الطفل توجيها يساعده على اكتساب السلوك السليم.
  3. أن يساعد المنهج التلميذ على استخدام الأسلوب العلمي في التفكير حتى يستطيع التصدّي لما قد يعيق القضاء على مشكلات حياته في البيئة التي يعيش فيها ومن ثم يصبح التلميذ قادراً على التغيير وليس عقبة في سبيله.
  4. أن تكون المناهج مرنة قابلة للتعديل، فيجب أن تتغيَّر المناهج بتغيُّر الظروف التي تطرأ على المجتمع لتصبح متمشية مع هذا التغيُّر ولتظل قائمة بوظيفتها بوصفها أداة سليمة لتربية الأبناء، وإلا فإنها تكون مناهج متخلفة لا تصلح لهذا المجتمع بعد تغييره.
  5. يجب أن يسهم المنهج في تحقيق توعية المُتعلِّمين لوجهة التغيير بحيث يصبح لديهم اتّجاه إيجابي نحو التغيُّر المنشود، من خلال توضيح مزايا التغيُّر الإيجابي البناء، ومن حيث تحقيق تقدم المجتمع ورقيه والارتفاع بمستوى معيشة الفرد. وإذا كان المنهج المدرسي يمكنه الإسهام في تحقيق تكيف المُتعلِّمين للتغير المرغوب فيه، أو يمكن تحقيق توعيتهم وإعدادهم للوقوف ضد التغيُّر غير المرغوب فيه فإنه يمكن كذلك التمهيد لتحقيق التغيُّر المطلوب عن طريق تنمية كل من التفكير العلمي، والتفكير الناقد والتفكير الإبداعي لدى المُتعلِّمين.

ونخلص إلى القول إنّ التغيُّر هو معيار حقيقة الوجود، فالتغيُّر موجود في كل مكان، فبدلاً من الكون المطلق الذي آمن به الفلاسفة القدماء والذي تكون من صور وثوابت، أصبح الآن يقدم لوناً من الحياة غير متناهٍ من حيث الحدود والأبعاد، فالإنسان اليوم يعيش في عالم مفتوح ومُتنوِّع خلافاً لما عاشه في الماضي، فيصبح معه لزاماً على المدرسة والمنهج والبيت أن تتكيف مع التغيُّرات والتطوُّرات الحاصلة في المجتمع.


الأستاذة علياء يحيى العسالي

http://www.tarbya.net/SpSections/ArticleDetailes.aspx?ArtId=90&SecId=12