اللغة وخصائصها الفكرية والنفسية

وضع علماء اللغة عدداً من النظريات لتحديد المرحلة التي بدأ فيها الإنسان التعبير عن نفسه بالكلام، ولكنّ أياً من هذه النظريات لا تفسر تفسيراً كاملاً تطور اللغات الإنسانيَّة إلى ما وصلت إليه من تعقيد ودقة. ويعدُّ العلماء أنَّ اللغات بمراحلها المختلفة تشكل أهم إنجاز حققه الإنسان في تاريخه.
ويقول إدوارد ثورندايك من جامعة هارفارد: "إن اللغة أكثر أهمية من كل ما أبدعه الإنسان من أدوات في الأعوام الألفين الماضية." واللغة جزء بالغ الأهمية من حياة الإنسان اليومية، فبوساطتها يفكر، ويتصل بالآخرين، ويحقق التكيُّف مع نفسه ومع البيئة التي يعيش فيها. ولغة الفرد انعكاس لطريقة عيشه ومستوى تفكيره وعمق أحاسيسه. فما خصائص اللغة؟ وكيف تساعد معرفة هذه الخصائص مُعلِّمي اللغات على إجادة عملهم فيفيدون تلاميذهم أحسن فائدة وأكثر مما يفيدهم الوقت والجهد المبذولان؟



اللغة أداة بشريَّة:
أول خاصّة تمتاز بها اللغة هي أنها نشاط بشري. ومع أننا نعرف أن الحيوانات يتصل بعضها ببعض بأشكال مختلفة، إلَّا أننا نعرف في الوقت نفسه أن هذه الأشكال من الاتصال لا تمتاز بالمرونة والشموليَّة والدقة بحيث تُعَدُّ لغة بالمعنى المتعارف عليه.
ويقول عالم اللغات جوليان هكسلي الذي أجرى سلسلة من التجارب على الاتصال الحيواني في حديقة حيوان لندن: "إن في إمكان حيوانات كثيرة أن تعبر عن حاجتها إلى الطعام بطريقة أو بأخرى، ولكن ليس من حيوان يكون في إمكانه أن يطلب بيضة أو موزة." ويقول روبرت ييركس في دراسة له عن القردة: "كل شيء يشير إلى أن ما يصدر عنها من أصوات لا يشكل لغة حقيقيَّة، ويبدو أن هذه الأصوات في أساسها تعبير عن حالات نفسيَّة." وعلى ذلك فإنه يبدو أن الإنسان وحده هو الذي يستعمل اللغة كأداة من أدوات تحقيق ما يريد.

 

اللغة هي أحد أهم النشاطات البشريَّة:
تشكل اللغة أساساً لتعايش الجماعات، ومن المتعذر أن تقوم حضارة من الحضارات دون كتب وهواتف ووسائل اتصال وإعلام وغيرها. وتشير دراسات لغويَّة إلى أن الأطفال ما بين الثالثة والرابعة من أعمارهم ينطقون في المتوسط بحوالي عشرة آلاف كلمة في اليوم الواحد. بينما يتعامل الأطفال الأكبر سناً والراشدون وآلافاً مؤلفة من الكلمات كل يوم في الصحف والكتب والإذاعات والمحاضرات وغيرها. ومن هنا تتولد حاجة ماسّة إلى اكتساب مهارات لغويَّة تفيدنا في الاتصال بالآخرين والتأثر بهم والـتأثير فيهم.
وتتمثل هذه المهارات في القراءة والفهم والكلام والكتابة. ولا جدال في أن العيش في العصر الحديث يستلزم قدرات لتلقي هذا الكم الهائل من الكلمات، وفهمها، وغربلة ما فيها من أفكار، ومن ثم موازنة هذه الأفكار بعضها ببعض، وطرح ما لا يفيد منها، وتبنّي ما نعتقد أنه مفيد ورصين. وعلى ذلك تشكل النشاطات اللغويَّة الأساس في أي منهج تربوي، إذ تركز المدارس على تعليم الأطفال المهارات اللغويَّة الأساسيَّة وطرائق منهجيَّة لاستعمالها، الأمر الذي يمكّن الأطفال من تعلُّم حمل مسؤوليَّة أنفسهم والمساهمة في حمل المسؤوليات التي يفرضها المجتمع.

اللغة نمط سلوكي مكتسب:
يقول العالم اللغوي الدانماركي الشهير أوتو جيربيرسون: "يتمثل جوهر اللغة في أنها نشاط إنساني، يمارسه الفرد ليمكّن فرداً آخر من فهمه، ويمارسه الفرد الآخر لفهم ما يفكر فيه الفرد الأول." ولما كانت اللغة نمطاً سلوكياً فإن مشكلاتها ذات طبيعة نفسيَّة أكثر مما هي ذات طبيعة آلية. فالنشاطات اللغويَّة التي يمارسها الفرد هي في الأساس رد فعل على منبهات البيئة التي يعيش فيها، أو هي جزء من التفاعل مع تلك البيئة. وعلى ذلك يمكن دراسة اللغة على أساس تلك العلاقة مع البيئة.
من هنا نرى أن إنفاق وقت طويل على تمارين النحو الصحيح وأشكال الأفعال وحروف الجر المختلفة، في معزل عن سلوك الطفل وخبراته، كما تفعل بعض المدارس، هو أمر مبالغ فيه. لقد أخفقت مدارسنا، عموماً، في تعليم اللغة العربية في سياقها الصحيح، وتجاهلت أنَّ اللغة شكل من أشكال السلوك الإنساني وليست مجرد "جمل نموذجيَّة" تكتب على السبورة ويقضي المُعلِّم والتلاميذ الساعة تلو الساعة في شرحها واستخلاص ما فيها من قواعد نحوية وإملائية.

لا بد من أن نَعُدَّ اللغة جزءاً من النشاط الكلي للطفل في أوضاع اجتماعيَّة معينة، وأداة يعبر بها عن خبراته وأحاسيسه. يقول المؤلف كورت كوفكا: "إذا أراد المُعلِّم أن يعلم الطفل لغة دقيقة ومهذبة، فإنّ عليه أن يعلمه السلوك الدقيق والمهذب". فالمُعلِّم الحاذق يرى بوضوح العلاقة بين النشاطات اللغويَّة وخصائص شخصيَّة الطفل المُتعلِّم، بما في ذلك أحواله النفسيَّة والانفعاليَّة، وخبراته الحياتيَّة، ومواقفه مما يجري حوله من شؤون.

وليست اللغة مهارة طبيعيَّة، ولكنها مهارة مكتسبة. ويُؤكِّد علماء اللغة أهمية البيئة اللغويَّة المُبكِّرة للطفل وأثرها في تكوينه الفكري والنفسي. ويُؤكِّدون أيضاً أهمية عدُّ الطفل في مجال استعماله اللغة فرداً له من الخصائص الجسميَّة والعقليَّة والنفسيَّة ما يميزه من أقرانه، ليس فقط عندما يبدأ تعليمه المدرسي الابتدائي، ولكن أيضاً في سنوات تعليمه المُتقدِّمة. ولنا أن نتوقع مواقف مختلفة من اللغة بين الأطفال نظراً إلى اختلاف بيئاتهم اللغويَّة: فالأطفال يختلفون في اهتماماتهم بالكلمات، وفي معرفتهم للكتب والمجلات، وفي إلمامهم بالقصص المُخصَّصة للصغار. ولذلك فإن التركيز على تمارين تركيب الجمل مثل "المجدّون فائزون" و"وصل القطار إلى المحطة مُبكِّرا" هو مضيعة لوقت كثير من الأطفال، بل هو يسهم بما يسببه من ضجر في اتخاذ مواقف عدائية من المدرسة ومن العملية التعليميَّة برمتها. إذاً، لغة الطفل وحاجاته التعليميَّة في مجال اللغة هي مسألة فرديَّة في المقام الأول.

اللغة رموز وأعراف:
إذا رأينا جسما مؤلفا من أربع أرجل ومسنداً ومقعداً يجلس عليه شخص فإننا نطلق عليه اسم "كرسي". لماذا؟ لأن هذا هو الاسم المتعارف عليه. كان في إمكاننا أن نسميه "بقرة" أو "تفاحة" لو أنَّ الجميع تعارفوا على تسميته كذلك. وعلى هذا، فإن كل الكلمات التي نستعملها هي رموز لأفكار وأشياء ماديَّة أو مُجرَّدة. ولما كانت اللغة تقوم على رموز متعارف عليها فإن ذلك يثير عددا من المشكلات التعليميَّة المهمة. فنحن لا نريد أن يقول الطفل "ليمونة" في حين انه يقصد "باذنجانة"، ونريد أن يقرأ ويكتب بالشكل الذي يفهمه الآخرون. يضاف إلى ذلك أنه يجب على الطفل ألّا يستعمل الرموز الصحيحة للتعبير عن معنى معين فحسب، بل عليه أن يفهم ما تمثله هذه الرموز من دلالات حين يستعملها شخص آخر.

ويكتسب الطفل بشكل عام فهما لما تمثله الرموز على نحوٍ بطيءٍ جداً. فكلمة "كرسي" تعني لطفل صغير أول ما تعني كرسيه الخشبي الصغير. أما الكرسي الذي يجلس عليه جده، فهو شيء آخر. وشيئاً فشيئاً، يكتشف أن الكراسي جميعاً تشمل عناصر مشتركة معينة، وعندئذ يستطيع تعميم فكرة الكرسي، وبذلك يستوعب الدلالة. بل إن الكثيرين منا يضيفون باستمرار دلالات جديدة لكلمات مُجرَّدة مثل "العدل" و"الحق" على مدى الأيام والسنين. فاللغة، إذاً، نظام رمزي وعرفي، يشكل تحدياً كبيراً للمُتعلِّم الصغير، وهو قابل للتطور والتجدد في السنوات اللاحقة.

 

اللغة نشاط اجتماعي في الأساس:
أهم وظائف اللغة هي التعبير عن أفكار في ذهن المتكلم ونقلها إلى ذهن المستمع. وتقول المؤلفة غريس دو لاغونا: "يشكل الكلام الوظيفة الأساسيَّة في تنسيق نشاطات أفراد جماعة من الجماعات". ويعتقد جان بياجيه، العالم اللغوي الشهير، أن الطفل لا يستطيع قبل سن السابعة أن يفكر بحيث يرى العلاقات التي يراها الكبار بين الأشياء. ويشير علماء آخرون إلى أن واحداً من أهم أغراض اللغة هو ترك انطباع في الآخرين والتأثير في سلوكهم وتفكيرهم وعواطفهم. ويرى آرثر كنيدي أن اللغة المنطوقة أو المكتوبة أيضاً المستعملة في الإعلانات التجارية وفي الأعمال الدعائية تستعمل بغرض التأثير في سلوك الآخرين. وهذا استعمال اجتماعي للّغة.
ومن الأغراض الاجتماعيَّة لاستعمال اللغة كذلك حفظ أفكار ومعلومات عن الميراث الثقافي في مجتمع من المجتمعات من جيل سابق إلى أجيال لاحقة. والكتابة والقراءة عنصران أساسيان في تلك العملية. ففي القبائل البدائية يقوم الكلام بدور أساسي في نقل معارف القبيلة وقيمها وأعرافها من الأب إلى الابن. وفي الحضارات الأكثر تعقيداً تؤدي اللغة دوراً عظيماً في نقل المعارف والخبرات من جيل إلى جيل بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة. ويتلقى الأطفال والكبار عن طريق هذه الاتصالات الشفهيَّة والمسجلة مخزوناً ضخماً من الخبرات التي تساعدهم على حل مشكلاتهم، فتيسّر عليهم حياتهم وتجعلهم أكثر تكيفاً مع مجتمعهم وأكثر قدرة على تذليل الصعوبات في هذا السبيل. فباللغة يبني المرء فوق ما بناه آخرون قبله، ويحقق فتوحات جديدة.

ويستفاد من المهارات اللغويَّة في التواصل الاجتماعي، وإن امتازت هذه المهارات بخصائص فردية في الشهور والسنوات الأولى من حياة الطفل. فالكلام والفهم والقراءة والكتابة كلها ذات أهمية اجتماعيَّة كبيرة نظراً إلى الدور الذي تقوم به في عملية تكيف الفرد مع نفسه ومجتمعه. وعندما يتعلَّم الطفل الكلام يكتسب قدرة على فهم أفضل لبيئته، ويحقق بذلك وضعاً أفضل في التواصل مع الآخرين. والطفل الذي لا يستطيع التعبير عما يحتاج إليه يشعر بكثير من الإحباط والعجز. وإذا تأخر الطفل في اكتساب المهارات اللغويَّة الضروريَّة في السنوات المدرسيَّة فإنه يفقد جانباً كبيراً من احترامه لنفسه ومن القدرة على اكتساب المعارف المختلفة في المدرسة والشارع والبيت. ونقرأ في سيرة حياة الكاتبة الأمريكية هيلين كيلر التي ولدت صماء وعمياء وبكماء أنها قبل سن السادسة وقبل تعلمها المهارات اللغويَّة اللازمة كانت تشعر بكثير من الضيق وكانت كثيرة الغضب والتوتر وقليلة القدرة على التكيُّف مع محيطها. ولكن ما إن اكتسبت القدرة على التعبير حتى أصبحت قادرة على التعامل مع أقرانها. وتشير دراسات كثيرة إلى العلاقة الوثيقة بين ما يعترض بعض الأطفال من صعوبات في التعلُّم وعدم القدرة على التكيُّف النفسي. وتخلص هذه الدراسات إلى أنَّ هناك علاقة قوية بين تعلُّم اللغة والعناصر التي تشكل شخصيَّة الطفل.

ولا تنبع أهمية اللغة بالنسبة إلى الفرد من علاقتها بالتكيُّف النفسي فحسب، ولكن من كونها أساساً للتفكير أيضاً. فنحن عندما نفكر نستعمل اللغة حتى دون النطق بكلمة واحدة. وكذلك لا تتوضح أي فكرة إلا بالتعبير عنها لغوياً. يقول جيربيرسون: "أنا أتكلم لاكتشف ما أفكر فيه." ويبدو أنه عندما يكبر الأطفال يكتشفون أن لديهم مخزوناً من الأفكار والمشاعر والخبرات التي تشكلت قبل قدرتهم على التعبير عنها بكلمات، فتبقى في وجدانهم دون تعبير، ولكن سيكون في إمكانهم أن يكشفوا عنها بالكتابة الإبداعيِّة.



د. زياد الحكيم

المصدر: مجلة المُدرِّس