الغش في الامتحانات نتيجة منطقية للقيم السائدة

بدءاً يجب الاعتراف بأنّ ظاهرة الغش في الامتحانات في مُؤسَّساتنا التعليميَّة أصبحت واقعاً لا يختلف حول وجوده اثنان.

كما أن الوعي بتردي الواقع التعليمي والاستعداد لمعالجته يعدان شرطين قبليين ضروريين، أي بدونهما يستحيل الشروع في تقويم نظامنا التعليمي ومن ثمَّ النهوض به. وتجدر الاشارة أنّ تناول ظاهرة في مثل هذا الحجم ليس أمراً هيناً، لآنها ظاهرة معقدة يتداخل في تكوينها ماهو سوسيو ثقافي واقتصادي وسياسي وقانوني.



كلمة "غش" تعني التصرُّف بسوء نية وخداع، وفي التاريخ اللغوي للكلمة نجد أنها مأخوذة من الكلمتين اللتين تعنيان في آنٍ واحد، الخطأ والايقاع فيه أي الخداع، وتطلق الكلمة على كل التصرُّفات الغادرة أو المخادعة التي تهدف إلى تحقيق غايات خسيسة أو غير شرعية، وبهذا المعنى استعملت للدلالة في القانون على الغش الجبائي والجمركي، والغش في الامتحانات والمباريات العمومية والانتخابات وغير ذلك.

 

أصبح الجميع يعترف بشيوع الغش في أوساط التلاميذ والطلبة. وعرفت في السنين الأخيرة استفحالاً جعل المهتمين يتساءلون عن أسبابها الحقيقيَّة وآثارها على التربية والتكوين، وعلى مستقبل شباب أصبح الغش سلوكاً عادياً ومحموداً لديه. إنّ المسؤوليَّة في تفشي هده الظاهرة تتوزعها جملة من الأسباب يمكن تلخيص بعضها بالآتي:

  1. طبيعة مواضيع الامتحانات وأسئلتها:

جل مواضيع الامتحانات لا تستدعي على الاطلاق إِعمال العقل والتفكير، ولا تقتضي توظيف مجهود خاص في الفهم والتحليل والاستنباط بل تتطلَّب فقط تكرار معلومات وأفكار سبق التعرُّف عليها داخل الصّف، وبما أنّ الأمر كدلك فإنّ التلميذ لا يجد أي حرج في اللجوء الى الغش لإرجاع البضاعة التي سلمت إليه كما هي دون نقص أو زيادة.

 

  1. انحراف نظام الاكاديميات عن دوره الحقيقي:

من بين الأهداف الرئيسة لنظام أكاديميات التعليم الجهوية (1987) تطوير وتشجيع البحث التربوي وعقلنة التقويم. لكنّ الواقع يبين أنّ الاكاديميات اكتفت بوظيفة إعداد الامتحانات في شروط تتطلَّب مبالغ ماليَّة كبيرة. وغدت دورات الامتحانات "طريطات" تلاحق الأستاذ والتلميذ على السواء، وأصبح هاجس الامتحانات يدفع بهما الى الركض وراء المُقرَّر أو بعض أجزائها في حدودها السطحية والدنيا التي يطلبها الامتحان مما شكل أرضية ملائمة لاستنبات التحايل والغش.

 

  1. شيوع فضاءات لا تربويَّة داخل المُؤسَّسات التعليميَّة:

أغلب فضاءات ومرافق مُؤسَّساتنا التعليميَّة (جدران، طاولات، مراحيض، أبواب) تؤثثها كتابات ورسوم نقشت من أجل تفجير المكبوتات الجنسية، ولتعرية مضامين بعض المُقرَّرات الدراسيَّة، فهذه الخربشات يمكن أن نَعُدَّها وسيلة التلميذ للتعبير عن استنكاره لممارسات تمس كرامته، ومن ثمَّ يجد نفسه غير معنِي بالانضباط الأخلاقي والتربوي في مثل هذا الفضاء الذي لا يشجع إلا على الهروب إلى المحاكاة والغش.

 

  1. عوامل نفسيَّة تنتج الظاهرة:

يمكن تفسير الغش في الامتحانات كسلوك بكونه مظهراً من مظاهر إشباع النزعة الاجتماعيَّة والجماعيَّة لدى المراهقين. التبعيَّة والمحاكاة (نقلت لأن الكل ينقل)، ذلك لأنّ اثبات الذات واكتساب الأهمية والقيمة كلها رغبات تتحقق في ظل الانتماء الجماعي، حيث يصبح الغش جزءاً من الحياة النفسيَّة لدى بعض التلاميذ كباقي المظاهر الأُخرى التي تعبر عن ذات المراهق وشخصيته كالتهور والغياب والغضب والأنانية.

 

  1. تفكك الاسرة اجتماعيا ونفسياً:

العديد من التلاميذ ينتمون إلى أسر فقيرة، ويقطنون أحياء هامشية حيث تتفشى المشاكل والصراعات الاجتماعيَّة ومختلف الانحرافات الأخلاقيَّة مما ينعكس سلباً على البيئة النفسيَّة للأبناء، فيصبحون معرضين لمختلف التأثيرات السلبيَّة ومن بينها تشريع ممارسة مختلف أنواع الغش المرموز منه والواضح، وكذلك ازدياد مخاطر اختلاط الابناء والقدوة السيئة، ومن ثمَّ ليس غريبا أن يرتبط هذا الواقع الأسري المتردي بلجوء التلميذ إلى الغش كوسيلة تنمي حظوظه في النجاح المدرسي.

 

  1. تردي الضمير المهني لدى بعض المُدرِّسين:

من خلال رصد واقع المُؤسَّسات التعليميَّة في مختلف أسلاك التعليم يمكن القول إنّ من بين "المواد" التي تثير انتباه التلاميذ والتي تخصص البعض في تلقينها (ولكم واسع النظر حول كلمة البعض)، تعليم الغش والتربية على ممارسته. وجالسوا براءة الاطفال إن كنتم لا تعلمون؟ كما أنّ الغيابات المسترسلة والبعيدة عن المُسوِّغات الموضوعية لبعض المُدرِّسين وعدم شرح المواد الدراسيَّة وتبليغها بالوسائل التربويَّة التوضيحيَّة المطلوبة، بالإضافة إلى تواطؤ بعض المُدرِّسين مع التلاميذ وذلك من أجل بذل أقل مجهود ممكن من الطرفين مقابل التمتع بنوع من السلم في العلاقة الاجتماعيَّة بينهما "المنهاج الخفي" حسب تعبير الأستاذ "الدريج" فمن الطبيعي أن نتساءل:

حين نمنح التلاميذ نقاطاً ومعدلات (مع سبق الاصرار والترصد) لا تعكس مؤهلاتهم الدراسيَّة الحقيقيَّة، ألا يعد هذا غشاً والدفع أخيراً إلى ممارسته؟

 

  1. تراجع المهام التربويَّة (إن وجدت أصلاً) لرجال الإدارة:

إنّ ادارتنا التربويَّة الحالية هي إدارة تقليديَّة، يقتصر دورها على الوظائف الإداريَّة الروتينيَّة المكتبيَّة، والتأكد من سير الدراسة وفق المذكرات الرسميَّة والجداول المقننة. غير أنّ دور الطاقم الاداري للمؤسسة المدرسيَّة في رصد وتشخيص مختلف الظواهر المرضيَّة التي يعرفها الواقع المدرسي، وكذلك في البحث عن الحلول الملائمة لها يُعَدُّ دوراً أساسيا، خصوصاً وأنّ هذا الجهاز مسؤول عن تسيير وتدبير شؤون مؤسسة تربويَّة، ويلاحظ في هذا الإطار أنّ الكثير من القضايا التي تكتسي نوعا من الأولوية على صعيد الواقع الراهن للمدرسة، سواءٌ ما تعلق منها بالقيم والنماذج السلوكيَّة الجديدة للمراهقين (الغش، العنف المدرسي، التحرش الجنسي، الغياب الفردي والجماعي) أو بالمواقف من المدرسة ومختلف العوائق التي تحول دون تحقيق مردودية العملية التربويَّة، كل هذه القضايا والتي يمكن أن تشكل موضوع ندوات وعروض ونقاشات داخل مجالس المؤسسة وخاصة مجلس التدبير، من أجل وضع برامج وصياغة اقتراحات قابلة للتنفيذ، لتجاوزها أو التقليص من آثارها، نجدها مغيبة على مستوى الانشغالات اليومية لإدارة جل المُؤسَّسات التعليميَّة. واسألوا عن عدد المُؤسَّسات التعليميَّة التي أسست وفعلت "لجنة الحيطة والوقاية" لمواجهة ظاهرة الغش في الامتحانات طبقاً لمقتضيات المذكرة الوزارية رقم (99/3).

 

  1. اختزال وتوجيه التعلُّم ليصب في خدمة الامتحان:

إنّ تركيز تعليمنا على مسألة التقويم (الوطني، الجهوي، المحلي، المراقبة المستمر، الفروض، الشفوي)، جعله يهمل أهم شيء في العملية التعلميَّة، وأقصد الجانب المهاراتي والمعرفي والتكويني والتربوي، تعليمنا مازال لا يكترث بتنمية قدرات التلميذ العقليَّة ومهاراته الذهنيَّة وتربيته على اكتساب قيم ومهارات تؤهله للتصدي لمُتطلَّبات العصر العلميَّة وتجعله قادرا على المبادرة والاندماج في مشاريع المجتمع. هذا الواقع جعل الهاجس الأساسي للتلاميذ هو حصولهم على معدلات عدديَّة مقبولة، ويبقى اللجوء إلى كل الوسائل المتاحة والممكنة أمراً عاديا (أو حتى حقاً مكتسباً) ومن بينها التحايل والغش.

 

  1. ارتباط الغش في الامتحان بدواليب المجتمع:

من أين جاءت "القيمة" التي أصبح يكتسبها الغش في تصوُّر التلاميذ؟ إنّ هذا التساؤل يسوقنا إلى مصدر القيم بالنسبة إلى التلاميذ، والتي ليست سوى الأسرة والمدرسة والمجتمع، وإذا تابعنا خط تساؤلنا فإننا سنجد أنّ المدرسة إلى جانب الأسرة والمجتمع تتحمَّل مسؤوليَّة كبرى في تربية التلاميذ على الغش، فالظاهرة لا ترتبط بالتعليم فقط بل هي ظاهرة جزئية في إطار كل مجتمعي بما فيه من أخلاق وسلوكيات وقيم. فالتلميذ الذي يعيش الغش السياسي في الانتخابات، والغش في النتائج الرياضيَّة، والغش في جودة المواد الاستهلاكية، وعدم احترام قوانين البناء، ومخالفة ضوابط السير على الطرقات ولا يصبح شيئا غريباً بالنسبة إليه أن يمارس الغش والخداع في الامتحانات، ففي مجتمعنا
(وهذه ميزة نتقاسمها نحن وإخواننا العرب) الأمور لا تنبني على مبدأ الاستحقاق. فالتعليم يؤثر ويتأثر لأنه ليس جزيرة منعزلة، والغش والتزوير وسلوك الطرائق اللامشروعة كلها عدوى انتقلت من المجتمع إلى التعليم.
أجل تكثر الأسئلة حول ظاهرة الغش في الامتحانات، دور البطولة فيها لم يعد يقتصر على التلاميذ فقط (لفيه الفز يقفز)، أسبابها وتأثيرها على المستوى الدراسي والمهني للتلميذ، ومن ثمَّ نتائجها على مستقبل البلاد.

وتتعدد الأجوبة ويبقى الحل صعباً، لأنّ الظاهرة تتحكم بها ضوابط ومُتغيِّرات مختلفة، يصعب تجاوزها بعيداً عن التحليل العلمي والمشاركة الجماعيَّة والسعي الحقيقي إلى التغيير.

 

المصدر: مجلة المُدرِّس