الجذور الفلسفيَّة لدراسة التعلُّم

إن مفهوم التعلُّم يتصل بعمليات اكتساب السلوك والخبرات والتغيُّرات التي تطرأ عليها، فنتائج عمليَّة التعلُّم تظهر في جميع أنماط السلوك والنشاط الإنساني، الفكريَّة والحركيَّة والاجتماعيَّة والانفعاليَّة واللغويَّة، بحيث تتراكم الخبرات والمعارف الإنسانيَّة وتنتقل من جيل إلى آخر عبر عمليات التنشئة الاجتماعيَّة والتفاعل مع العالم المادي. ومعظم مفاهيم التعلُّم التي نتعامل معها اليوم ما هي إلا حصيلة لما قدمه الفلاسفة والمُفكِّرون القدماء امتداداً من عصر الفراعنة المصريين ومروراً بالحضارات اليونانيَّة والرومانيَّة والإسلاميَّة والغربيَّة.

 



ويعزو علماء الغرب معظم أفكارهم حول التعلُّم إلى اثنين من الاتجاهات الفلسفيَّة اليونانية وهما: المذهب العقلاني (rationalism) الذي قدمه أفلاطون وأتباعه، والمذهب الارتباطي (associationism) الذي نادى به أرسطو وتلاميذه. لقد شكلت الأفكار التي جاء بها هذان المذهبان ما يسمى بعلم النفس الفلسفي (Philosophical Psychology). والذي انصب اهتمامه على دراسة الطبيعة الإنسانيَّة من حيث الخلق والتكوين والهدف والطبيعة الوجودية. ومن هذا الفرع ظهر ما يسمى بموضوع علم النفس بوصفه نتيجة لانفصال علم النفس كباقي فروع المعرفة عن الفلسفة، وعرف باسم علم الحياة العقليَّة، حيث شكل التعلُّم والذاكرة محورين رئيسين من محاور هذا العلم.

 

المذهب الترابطي (Associationism) لأرسطو

وقد تبنى العديد من الفلاسفة البريطانيين أمثال هوبز وجوك لوك وجون ستيوارت أفكار أرسطو، مما أدى إلى ظهور ما يسمى بالمدرسة التجريبيَّة (Empiricism) أو ما تعرف بالمدرسة الترابطية. ومن هناك انتقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكيَّة، وظهر ما يسمى بالمدرسة السلوكيَّة على يد جون واطسون وثورنديك.

يرى أرسطو أن المعرفة تتألف من مجموعة من الإحساسات الرئيسة، لأن الإنسان يولد وعقله صفحة بيضاء بحيث تنطبع فيه الإحساسات المختلفة لتشكل الأفكار عبر التفاعل مع البيئة. حيث يرى أن الأفكار أو ما يعرف بمُكوَّنات العقل تنشأ بفعل ترابط الإحساسات البسيطة معا لتشكيل ما يسمى بالأفكار المعقدة. وتحديداً فهي ترى أن معظم الأنشطة الإنسانيَّة هي بمنزلة سلوكيات مُتعلِّمة، بحيث يمكن تحليل الظواهر النفسيَّة إلى عناصر أوليَّة أو اختزالها في سلوك.

 

المذهب العقلاني (Rationalism)

تعود جذوره إلى أفلاطون حيث يرى أن كل أنماط المعرفة هي فطريَّة غير مُتعلِّمة، وأن مصدر هذه المعرفة هو العقل. لقد ميّز أفلاطون بين الإحساسات القادمة عبر الحواس المختلفة وبين ما يعرف بالأنماط (forms) التي تتاح لنا من خلال التفكير العقلاني. فهو يرى أن المعرفة تولد مع الإنسان ولا يمكن القول بوجود عمليَّة تعلم، وأن ما يحدث بالفعل هو استرجاع أو تذكر ما هو كائن بالعقل فعلاً. واعتماداً على ذلك فإن المصدر الرئيس للمعرفة هو المحاكمة العقليَّة وليس الحس.

ويرى أن الخبرات الحسيَّة ليست مصدراً رئيساً للمعرفة لأنها مشوشة غير متمايزة أو منتظمة. ونحن متهيئون لإدراك وتفسير الأشياء التي تحدث حولنا بالطريقة التي ندركها بها. فمثلاً عمليات إدراك الزمان والموقع والعمق والمكان والفراغ هي بديهيات قائمة في ذاتها ندركها هكذا منذ الولادة ولسنا في حاجة إلى تعلم ذلك.

لقد تأثر العديد من الفلاسفة بأفكار هذا المذهب أمثال الفيلسوف الألماني كانت والفيلسوف ليبتز. كما شكلت أفكار هذا المذهب الافتراضات الرئيسة التي انطلقت منها النظريات المعرفيَّة الحديثة، ومن أشهر روادها بياجيه وبرونر وتشومسكي.

إنّ المذهب العقلاني يُؤكِّد ضرورة دراسة الخبرة أو السلوك بوصفه وحدة كلية حتى لا تفقد الخبرة المعنى أو الوظيفة. فالكل هو أكبر من مجموع العناصر المُكوَّنة له.  ومن هذه القاعدة انطلقت النظريَّة الجشتالتية في تفسيرها لعمليات الإدراك.

 

المرجع:

الزغول، عماد: نظريات التعلُّم. دار الشروق، عمان، الأردن، (2003م).