الثواب خير من العقاب في التربية

جميل رسلان:

لقد خلق الله الإنسان مختلفاً عن سائر المخلوقات العلوية والسفلية فمنحه العقل والإرادة وأناط به التكليف وجعله خليفة في الأرض وزوده بطاقات هائلة من الإمكانات الإبداعية ونزعات الخير والشر ولكل فرد عالمه الخاص ولهذا كانت التربية مَهمّة شاقة حتى قال أبو حيان التوحيدي (القتل أخف من التربية) وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ليبين للناس طريق الخير وطريق الشر ويهديهم ويصلح نفوسهم ويربيهم على التقوى. والله تعالى لا يأمرنا إلا بما هو ممكن ولكن عندما تحدث عن النفس قال: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها). (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).

 



وعلى الرغم مما توصل إليه الإنسان في علم الذرة والفضاء إلا أنه عجز أن يدخل أعماق النفس الإنسانية بالقدر الكافي ليعرف محتوياتها قال تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).

القضية التي شغلت أذهان المشتغلين بعلم الإنسان منذ أقدم العصور وهي قضية الثواب والعقاب في التربية ويأتي الحديث في هذه القضية في الوقت الذي تجد فيه رأيين متعارضين، رأياً يؤيد العقاب في التربية وأخرَ يعارضه.

إن مشكلة العقوبة في المدارس وضرب الأبناء محل نزاع هل يسمح بضرب الطلاب في المدارس أم يمنع ونهتدي في ذلك بقوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) فلم تكف هذه المنافع لإباحتهما بل حرما بسبب الإثم الكبير الذي فيهما.

ويرى المعارضون أن العقاب في التربية مرفوض مستندين في ذلك إلى قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:

((ولن يضرب خياركم)) هذا الحديث الشريف خير دليل على أن الثواب خير من العقاب، ويستدل بعضهم بتوجيهه صلى الله عليه وسلم: للآباء أن يأمروا أولادهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ويضربوهم عليها إذا بلغوا العاشرة على إقرار الضرب في المدارس. ولكن هذا لا يكفي دليلاً لأن الصلاة ركن أساسي من أركان الإسلام فلو ضرب الوالد ولده بعد أمره بالصلاة ثلاث سنين ولم يستجب فإنه يستحق الضرب أما إذا تكلم الطالب في الصف مع زميله فهل يستحق الضرب؟؟؟؟.

ولكن أصحاب الرأي الذي ينادي بالعقاب يقولون: إن منع الضرب يزيل الهيبة من نفوس التلاميذ ولكن من قال إننا نريد التلاميذ أن يهابوا المعلم؟ أهم في سجن أم معتقل؟؟؟؟

نحن نريد الاحترام القائم على المحبة لا الخوف من العصا.

ويرى الدكتور (ألفن فروم) اختصاصي العلاج النفسي أن ضرب الطفل سياسة انهزامية لأنه يجعل الطفل يخاف من ضاربه ويكرهه ويعلم الطفل الطاعة العمياء بدلاً من المناقشة والفهم والإقناع وقد وجد أن الضرب في بعض الأحيان يزيد الطفل عناداً وبذلك يثبت السلوك الذي نسعى إلى تغييره.

كما أن الجو المشحون بالانفعال والتوتر يؤدي إلى الاضطراب النفسي مما يكون سبباً لمعانات فردية في المستقبل يقول ابن خلدون: (إن الشدة على المتعلمين مضرة بهم).

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه).

من هنا كان من الضروري الرفق بالطالب الذي نظن لديه تقصيراً في الفهم والتحصيل وخاصة أننا نعيش في عصرٍ كثرت فيه المغريات وتنوعت أسباب الترفيه والتسلية وأصبحت الدعاية والإعلان فناً من فنون الإقناع والتوجيه النفسي والاجتماعي كل ذلك أدى إلى انصراف الطلاب عن الكد ولا تخلو المدارس من وجود نماذج من المعلمين المربين الأفاضل الذين يغلبّون الترغيب على الترهيب فيحققون بثناء جميل صادق ما لا يحققه سواهم بالعصا والعبوس.

ونلاحظ من أقوال علماء التربية المسلمين قد اهتموا بمسألة الثواب في التعليم وأنه ذو أثر في التعليم والمتعلم وأن الشكر والمدح والثناء تدفع التلاميذ إلى مزيد من الاستجابات المطلوبة وإلى تحقيق التحصيل والنجاح وأن الرفق وحسن المعاملة والمحبة المتبادلة بين الأستاذ وتلميذه والتسامح ومراعاة حق الصحبة في ضوء الحديث الشريف: (لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه) ويرى ابن جماعة الشافعي (أن العلاقة المتبادلة بين المعلم وتلاميذه القائمة على الاحترام والمحبة فإذا أحب التلميذ معلمه يسلك في السمت والهدى مسلكه ويراعي في العلم والدين عادته ولا يدع الاقتداء به) وعلى المعلم كذلك أن يحب تلميذه ويفرح بتعليمه ويدلل ابن جماعة على أن أنجح المعلمين هم أشدهم حباً لتلاميذهم وأكثرهم رعاية لهم ويتحدث عن الرفق بالتلاميذ واللين في معاملتهم والرحمة بهم والشفقة عليهم كما أولى ابن جماعة الإثابة اهتماماً كبيراً فطلب من المعلمين أن يثيبوا طلابهم إذا كانوا يستحقون الإثابة أو المكافأة فإن الإثابة تبعث الطلاب على الاجتهاد والرغبة في التحصيل سعياً للحصول على تقدير المعلم ورضاه.

ولا يكفي أن يوجد المدرس المتمكن من المادة المتقن لطرائق التدريس بل لا بد له من أن يكون قادراً على التعامل مع التلاميذ والدخول إلى نفسياتهم وأن يبعث في دروسه الحيوية والعطاء وأن يكون حب العمل وحب المجتمع وحب التلاميذ وحب الخير موجهاً لعمل المدرس ويرى ماسلو (أن الذين لايحصلون على الحب لن يكون في مقدورهم إعطاء الحب للآخرين عندما يصبحون أشخاصاً بالغين) ذلك لأن الحب ضروري للحياة مثله مثل الطعام والشراب قال جان جاك روسو (ليس في وسعنا أن نعلم إنساناً المحبة كما نعلمه القراءة والكتابة نعلمه إياها بالمعاملة الطيبة والقدوة الحسنة) وما المشكلات التي تعترض الطلاب في المدرسة إلا نوعٌ من فقدان العلاقات الإنسانية وتحول البيئة المدرسية إلى بيئة صراع وعداء وكراهية.

وفي الختام علينا نحن المعلمين والمربين أن نكون قادرين على حمل هذه الأمانة التي أردنا أن نحملها بصبر وأناة وعلينا أن نوصل هذه الرسالة بحب وإخلاص وأن نحسن إلى من نعلم، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها وأحسن الشاعر حين قال:

وأحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم*** لطالما استعبد الإحسان إنساناً.

وأرى أن كلاً من الفريقين كان على حق في بعض ما يقول وأخالفه في بعضه الآخر لأن طلب العلم فريضة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة).

من هنا ينبغي لنا ألا نقصر في طلبه فلو كان لدى المتعلم إهمال أو تقصير وجب علينا أن نعالج هذا التقصير ونقوم سلوك الأبناء بالطرائق المحببة والمشجعة للمتعلم وأن يكون العلاج بالرفق واللين اقتداءً بأمر الله تعالى: (وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة).

ولكن عند ما تعجز كل الوسائل التي اتبعها المعلم في تقويم سلوك المتعلم يلجأ إلى العقاب بوصفه نوعاً من التأديب وتقويم السلوك لا غاية في ذاته ولا انتقاماً لشخص المعلم كما قال معاوية رضي الله عنه: (لا أستعمل سوطي ما دام ينفعني صوتي ولا أستعمل صوتي ما دام ينفعني صمتي).

ولا أعني بالعقاب الضرب لأن للعقاب أشكالاً عديدة قد يكون آخرها الضرب غير المؤلم أو كما قيل آخر العلاج الكي.

 

إعداد / جميل رسلان مدرسة المجد النموذجية