التعليم في المغرب على مفترق الطرق!

المغرب الأقصى كباقي دول العالم العربي والإسلامي شهد، وما يزال يشهد هزات عنيفة في مجال التعليم سميت كل مرة بـ (مشروع إصلاح التعليم)، وهي مشاريع إنما كانت تحاول في الأساس مسخ هويته الإسلاميَّة، واستئصال لغته العربيَّة.



وقد اتسمت في عمومها بأمرين: ترسيخ الفرنكوفونيَّة، وإضعاف الطابع الإسلامي لكل برامجه ومواده. فكان أن قدحت عن هذين الأمرين معارك عديدة منها معركة التعريب التي شهدتها الساحة المغربيَّة منذ أوائل عهد الاستقلال إلى اليوم، ومعركة مادة التربية الإسلاميَّة، وكل ما له صلة بالدين في التعليم، هذه المعركة التي ما تزال أدخنة وطيسها تملأ أفق الساحة المغربيَّة إلى الآن. فاليوم يشهد المغرب مشروع ما سمي بـ (إصلاح التعليم) على مستوى الوزارتين: وزارة التربية الوطنية وتكوين الأطر، ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي. وباتفاق كثير من الخبراء تُعَدُّ هذه المعركة هي الأخطر من نوعها على مستقبل التعليم في المغرب منذ عهد الاستقلال إلى اليوم.

 

من أجل ذلك نظمت مجلة البيان ندوة حول هذه القضية الشائكة تحاول بذلك استجلاء طبيعة هذه المعركة المصيرية، وتبين طبيعتها وأسبابها، ثم محاولة استبصار مآلاتاها. وقد استدعينا لهذه الندوة أربعة من المختصين في المجال التعليمي مراعين في ذلك تنوع الاهتمامات وتكاملها، وكل منهم يجمع بين الاشتغال الدعوي الإسلامي والتخصُّص التربوي التعليمي المهني، وكلهم طبعاً شارك، ويشارك في خوض معركة التعليم في المغرب. وهم كما يأتي:

  • الدكتور خالد الصمدي: رئيس قسم الدراسات الإسلاميَّة، وأستاذ التعليم العالي في المدرسة العليا لتكوين الأساتذة (أساتذة السلك الثاني من الثانويَّة العامة)، التابعة لجامعة عبد المالك السعدي بتطوان/المغرب. عضو اللجنة الوطنية، التابعة لوزارة التربية الوطنية، المكلفة إعادة هيكلة البرامج والمناهج التربويَّة، في النظام التعليمي في المغرب، في إطار مشروع إصلاح التعليم.
  • الدكتور حسن العلمي: أستاذ كرسي الحديث والفكر الإسلامي في جامعة ابن طفيل في القنيطرة/المغرب، ورئيس وحدة الدراسات المنهجيَّة الشرعيَّة في الغرب الإسلامي (الدراسات العليا) في الجامعة نفسها، ثم هو مدير معهد الغرب الإسلامي للتكوين والبحث العلمي في القنيطرة. وعضو المجلس العلمي في المدينة نفسها.
  • الشيخ الداعية أبو سلمان محمد العمراوي: عضو رابطة علماء المغرب، خريج معهد البعث الإسلامي للتعليم الشرعي بوجده المغربيَّة، اشتغل في الإرشاد الديني في صفوف الجالية المغربيَّة في أوروبا. وهو الآن مدير معهد الإمام مالك للتعليم الشرعي في مدينة سيدي سليمان المغربيَّة.
  • الأستاذ أحمد إبراهيم: أستاذ العلوم الطبيعيَّة في مدرسة المُعلِّمين في مدينة مكناس المغربيَّة، منذ أكثر من عشرين سنة، له خبرة في (التكوين البيداغوجي) للمُعلِّمين، وهو داعية معروف بدروسه في التفسير في دور القرآن والمعاهد الشرعيَّة.

 

هذا وقد دارت مناقشة القضية كما يأتي:

البيان: لا بد في البداية من محاولة تحديد مفهوم (التعليم) في علاقته بمفهوم (التربية)، ذلك لأنه كثيراً ما قُرِنَ في تسمية وزارة التعليم، بين ضميمتي: (التربية والتعليم)، فإلى أي حد يمكن الحديث عن تداخل المفهومين في العمليَّة التعليميَّة؟

 

الدكتور حسن العلمي:

في البداية أود أن أتوجه بالشكر الجزيل إلى مجلة البيان، ومُؤسَّسة المنتدى الإسلامي التي أتاحت لنا هذه الفرصة للتواصل والحوار مع الفئة المُتعلِّمة، أو الفئة الباحثة في بلاد المغرب.

والحقيقة أن هذا الموضوع الذي هو موضوع التعليم والتربية هو من المواضيع التي شغلت بال الباحثين والدارسين، ورجال التربية القائمين على هذا الشأن، خاصة في هذا العصر الذي صار الإسلام فيه يحارب من التغريب، وموجات الانحلال لإبعاد الناس عن دين الله عز وجل، وفصلهم عن هويتهم وحضارتهم. فالتعليم في المنظور الإسلامي لا ينفصل أبداً عن التربية، بل إن العلم إنما جاء لتربية هذا الإنسان، وربطه بالله عز وجل، وبالمشروع الحضاري الإسلامي في هذه الأرض لإقامة الدين في الأرض، ولذلك نلاحظ في القرآن الكريم أن الله عز وجل ربط بين العلم والتربية، قال الله عز وجل: (فّاعًلّمً أّنَّهٍ لا إلّهّ إلاَّ اللَّهٍ وّاسًتّغًفٌرً لٌذّنًبٌكّ وّلٌلًمٍؤًمٌنٌينّ وّالًمٍؤًمٌنّاتٌ وّاللَّهٍ يّعًلّمٍ مٍتّقّلَّبّكٍمً وّمّثًوّاكٍمً) (محمد: 19). فهما أمـران متتابعـان: (اعلم واستغفر). وقد بوَّب لذلك الإمام البخاري، رحمه الله، بقوله: (باب العلم قبل القول والعمل لقول الله، تعالى: (فّاعًلّمً أّنَّهٍ لا إلّهّ إلاَّ اللَّهٍ). وذكر في الترجمة، مما ذكر، قول عبد الله بن عباس، رضي الله عنه: (كونوا ربانيين: فقهاء حلماء. والرباني الذي يعلِّم الناس بصغار العلم قبل كباره)، فلا فصل ثمة بين التعليم والتربية. ومن سير السلف الصالح، رضي الله عنهم، نقتبس هذا النهج. فهذه أم مالك العالية بنت شريك التي كانت من أذكى خلق الله فطرة، كانت تعلِّم ابنها وترسله إلى ربيعة الرأي، وتقول له: (تعلم من أدبه قبل علمه).

 

ونحن اليوم حين نرى واقع التعليم في البلاد الإسلاميَّة، نجد أن مسؤوليتها أمام الله عز وجل، يوم القيامة عظيمة، وأنها أمة فرطت في جانب التربية والخلق، وجعلت التعليم تعليماً مهنياً، لتخريج المُوظَّفين فحسب، وليس لتربية المجتمع وهدايته وتأطيره. ولا نرى هذا إلا في أمة نسيت عقيدتها وأصولها. أما الأمم التي لها أصول إيديولوجية، ولها أفكار علمانيَّة، فهي لا تنفصل أبداً عن أصولها. فهذه جماعة (الجيزويست) الكنسية تعتمد التعليم المسيحي والأصول المسيحية في التربية، ولا تقدم على ذلك شيئاً. وكذلك اليهود مهما بلغـــوا من التطوُّر العلمــي والتكنولوجـــي لا ينفكون عن عقائدهم في تعليمهم.

 

الدكتور خالد الصمدي:

فيما يخص التلازم بين التربية والتعليم، كما قال الدكتور حسن العلمي أرى أنّ المفهومين متداخلان، وبينهما عموم وخصوص. فالتعليم: هو أسلوب من أساليب التربية، فهي أعم وهو أخص، فقد يؤدي التعليم إلى التربية، وقد لا يؤدي، لأنّ طبيعة الأهداف المرسومة لهذا التعليم، والمقاصد المُحدَّدة له. والقرآن نفسه تحدث عن التعليم وعن التزكية، وتحدث عن جملة من الصور التي يرتبط فيها التعليم بالتزكية، أي بالتربية. فنتج عن ذلك مجموعة من الصور التي تفترق فيها التربية عن التعليم، أو تتطابق معه. فعلى سبيل المثال: إبليس كان عالماً آتاه الله من العلم ما لم يؤت غيره، ومع ذلك أخفق في الاختبار، بسبب فقدان التربية، بسبب الكِبْر، والكِبْر لا يكون إلا في شخص لم يتلق التربية. لذلك كان هدف الرسالات السماوية في الأساس هو إعادة ربط التربية بالتعليم، ولذلك قال إبراهيم، عليه السلام، في دعوته لأمته: (رّبَّنّا وّابًعّثً فٌيهٌمً رّسٍولاْ مٌنًهٍمً يّتًلٍو عّلّيًهٌمً آيّاتٌكّ وّيٍعّلٌمٍهٍمٍ الًكٌتّابّ وّالًحٌكًمّةّ وّيٍزّكٌيهٌمً إنَّكّ أّنتّ الًعّزٌيزٍ الًحّكٌيمٍ) (البقرة: 129)، فطبيعة الرسالة هي هذه.

 

وإذا انتقلنا إلى واقعنا المعاصر، نجد أن نظامنا التعليمي منذ القديم، كانت ترتبط فيه التربية بالتعليم، فلم يكن هناك فصل نهائي بين (الأدب) بوصفه مصطلحاً تربوياً في الأساس، وبين (التعليم). فالمؤلفات التراثية التعليميَّة كلها تسير في هذا الاتجاه، نذكر مثلاً: كتاب (تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمُتعلِّم) لابن جماعة، أو كتاب القاضي عياض: (الجامع بين العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله)، ونحفظ في ضميمتي (التربية والتعليم) صوراً كثيرة من هذا، فقد كان العالم لا يبدأ في درسه إلا بعد أن يصلي ركعتين، والتعليم لم يكن إلا في المسجد، وللمسجد حرمته، وبعده التربوي وسكينته، وفعلاً حينما ارتبط التعليم بالتربية كانت له آثار جيدة جداً، على مستوى تكوين شخصيَّة المُتعلِّم، وعلى مستوى طبيعة المعارف التي يتلقاها، وطبيعة رسالة العلم الذي من أجله يتعلَّم. لكن مع مجيء الاستعمار إلى بلدان العالم الإسلامي كان هذا الفصل النكد بين التربية والتعليم، حيث أصبح للتعليم أغراض أخرى غير الأغراض التي كانت مُحدَّدة سلفاً في النظام التربوي للتعليم الإسلامي، إذ ارتبط بسوق المادة، وارتبط بسوق الشغل، وما شاكل ذلك.

 

وهذا ليس عيباً على الإطلاق، ولكن المشكل أن جانب التربية قد أخذ يضمر، ويضعف، ويضمحل في النظام التربوي المعاصر، حتى انتهى أمره. وما زلت أذكر هنا مقولة للدكتور المهدي بن عبود، رحمة الله عليه، حين قال: (مدارسنا تعلم ولا تربي، ولذلك فهي تخرج الأباليس)، لأنّ إبليس كما ذكرت سابقاً كان عالماً، ولم يكن متربيا. والحقيقة أن نظامنا التعليمي الحالي وخاصة في المغرب صورة من صور التعليم في العالم العربي والإسلامي قد انفصلت فيه التربية عن التعليم، في البرامج والمناهج والوسائل؛ ولذلك أعتقد بأن تدريس مادة (التربية الإسلاميَّة) في وضعها مادة في نظامنا التربوي والتعليمي، أقول مادة، هو نوع من العلمانيَّة، كأننا نكرس صورة مفادها أن العلوم الأخرى التي يدرسها المُتعلِّم من تاريخ، وجغرافيا، وفلسفة، ولغات... إلخ، ليس من شأنها أن تؤدي إلى تربية إسلاميَّة، ولذلك تجد التلاميذ الآن في المُؤسَّسات التعليميَّة قد يعيبون على أستاذ التربية الإسلاميَّة مجموعة من التصرُّفات، كالتدخين وغيره، في حين لا يعيبون هذا التصرُّف نفســه على أستـــاذ اللغـة الفرنسيَّة، أو العربيَّة، أو الرياضيات، ولذلك نرى أنّ التربية الإسلاميَّة في إطار ربط التربية بالتعليم يجب أن تكون هدفاً، وليس مادة، هدفاً ينبغي أن تسعى إليه كل المواد. كل المواد ينبغي أن تحقق في شخصيَّة المُتعلِّم تربية إسلاميَّة، لكن الذي حصل هو أن التربية انفصلت عن التعليم، وأصبح رجل التعليم الآن في المُؤسَّسات الابتدائيَّة والثانويَّة يمارس التعليم ولا يمارس التربية، لكونه مسؤولاً عن تقديم مجموعة من المعارف ليس إلا، ولذلك تجد هذا الأثر السيئ في سلوك المُتعلِّمـــين الآن، على أساس أنّ ما يدرسونه في المُؤسَّسات التعليميَّة مجموعة من المعارف، يطلب منهم استظهارها في نهاية الاختبارات السنوية أو الفصليَّة، دون أن يكون لهذه المعارف انعكاسات سلوكيَّة على تصرُّفات المُتعلِّمين، سواء تجاه أنفسهم، أم تجاه خالقهم، أم تجاه مجتمعهم. وأعتقد بأنه لا مجال لإعادة القيمة إلى أساتذة التعليم مرة أخرى إلا بإعادة ربطهم بالتربية وفقاً للنسق القرآني الذي تحدثنا عنه، والقائم على هذا الثلاثي الذي هو: العلم، والحكمة، والتزكية.

 

الشيخ محمد العمراوي:

الحقيقة هي أنه في تاريخنا الإسلامي، بل في نصوصنا الشرعيَّة قبل ذلك لا يمكن أبداً فصل التربية عن التعليم، والقرآن الكريم أشار إلى هذه الحقيقة في آيات واضحة وبينة تتحدَّث عن وظائف الرسالة المحمدية. قال عز من قائل: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبينُ) (الجمعة:2). فالتعليم مرتبط بالتزكية. والتزكية هي ما يمكن أن يصطلح عليه اليوم بالتربية بمعناها السلوكي، وإن كان لفظ التزكية أقوى وأعمق، من حيث الآثار النفسيَّة والمدلولات الباطنية، لأن التربية يمكن أن تنصرف إلى الجوانب الماديَّة، فقد تربي جسماً ليطول، أو شيئاً من هذا القبيل.

بينما التزكية أمر يتعلَّق بالتطهير، والتطهير هو المقصود في الأساس في هذا المعنى الذي يعبر عنه اليوم بالتربية. كذلك يقول القرآن: (كونوا ربانيين بما كنتم تَعْلَمُون الكتاب)، (تُعَلِّمُون الكتاب)، (تَعَلَّمُون الكتاب) بهذه (القراءات). فهي مرتبطة بالمُعلِّم، وبالمُتعلِّم، وبالعالم، وبلحظات التعلُّم: (كونوا ربانيين بما كنتم تُعَلِّمُون الكتاب) يعني وظيفة المُعلِّم أنه رباني، وما دام أنه رباني فهو يربي (بما كنتم تَعلَمُون الكتاب). ووظيفة المتلقي هو أيضاً أنه يتلقى التعليم مصحوباً، ومقروناً، وممزوجاً بالتربية والتزكية. و(بما كنتم تَعَلَّمُون) أي تتعلَّمون الكتاب، ففي الحصيلة كل هذه الأصناف: المُتعلِّم، والمُعلِّم، والعالم، مشمولون في نهاية المطاف بالتربية. فلا انفصام للتربية عن التعليم، ولا للتعليم عن التربية في التصور الإسلامي الصحيح. إنه لمن الغريب أننا عندما نقرأ كتب العلماء القدامى، حتى في المجالات التي تكون بعيدة عما يسمى اليوم بالتربية، كالنحو، والبلاغة، والطب… إلخ. نجد الخطاب التربوي حاضراً بقوة. فالنحو مثلاً في حقيقته علم لساني، وعلم جاف بطبيعته، ومع ذلك نجد ابن مالك مثلاً يورد أمثلة تربويَّة كثيرة جداً في ألفيته. فالمُتعلِّم يقرأ قاعدة نحوية عن النكرة، عن قضية الابتداء بالنكرة فيقول:

ولا يجـــوز الابتداء بالنكــرة              ما لــم تفـــد كعـند زيـــد نمرة

ويذكر أمثلة كلها حِكَم، فيقول: (ورغبةٌ في الخير خيرٌ). ويقول أيضاً: (عملُ برٍّ يزين)، ومثل هذا كثير.

 

فالعلماء كانوا يهتمون بالتربية وبالتزكية، حتى في أمثلتهم فيما يضربونه من حِكَم، في مجالس الدرس الذي كان يسوده الوقار والحشمة، فقد كان الشيخ يقوم مقام الأب ولم يكن هناك نوع من الانفصام أو المشاكسة بين المُتعلِّم وبين الشيخ. هذه أمور معروفة في تاريخ التعليم الإسلامي.

وعلى كل حال فالمجتمع الإسلامي كباقي المجتمعات، لا بد له من أن تظهر فيه انحرافات على مستوى التعلُّم وغيره، لكن تصدى لها علماء وتحدثوا عن آفات العلوم إذا جردت من التربية، وصار لها هدف آخر غير القصد التعبدي، كطلب المنصب أو الجاه أو غير ذلك، وأنت تعلم أن أبا حامد الغزالي ألف في هذا الصدد كتابه الإحياء، ففي مقدمته حملة شديدة على علماء الظاهر، حيث إن هؤلاء بدلاً من أن يصلوا بهذه العلوم إلى معارج الكمال الروحي والتزكية، صرفوا جهودهم إلى التعلُّم من أجل المناصب. وجاء بعده ابن الجوزي فكتب كتابه (تلبيس إبليس) في نقد العلم والعلماء. وليس ذلك نقداً للعلم في ذاته حقيقة، لأن العلم عند هذه الأمة هو أشهى شيء، وأغلى شيء، وإنما هو نقد سلوك بعض المنتسبين إلى العلم. وجاء بعدهما الحافظ الذهبي وألف كتاباً مختصراً، وهو جميل جداً، والعبد الضعيف يشتغل بالتعليق عليه، وهو في (بيان زغل العلم والطلب). والمعروف أن المراد بالزغل هو الزيف. فهو في بيان آفات العلوم، يعني آفات حاملي العلوم، إذا لم يصحب العلم التزكية والتربية.

 

ولذلك ليس هناك انفصام في تصور هذه الأمة ولا في تاريخها بين العلم والتربية، بينما جاءت هذه البرامج الحديثة اليوم مُجرَّدة من هذا المعنى، فهي كما تعلمون برامج جاءت من قوم لا يؤمنون بما نسميه نحن التربية، لأن للتربية عندهم مفهوماً آخر ينظــر إلى الإنســـان من جانبــه المادي فقط، لا ينظر إليه من جوانبه الأخرى. تلك طبيعة الغرب، وهذا مفهومه لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في المستقبل. فنحن أخذنا هذه البرامج على علتها، مع تباين المنطلقات، وتباين المفاهيم، وتباين المصادقات في نهاية المطاف، فطبقناها على مجتمع لا يؤمن بها في الحقيقة، فأنشأنا جيلاً شائهاً. المصيبة العظمى اليوم أننا بهذه البرامج التي فصلنا بها التربية عن التعليم، لا نربي الأجيال على شيء، حتى ما نسميه بـ (التربية الوطنية) هؤلاء الأجيال هم أول من يفرون من أوطانهم! وبذلك لا يتعلَّمون أي شيء، لأنهم ليست لهم أهداف كبرى يتحركون من أجلها. نحن عندنا العلم، كما قرره علماء هذه الأمة، مقصد في ذاته.

هو غاية في ذاته، فحولناه نحن إلى وسيلة فقط. وعندما لا يكون الهدف واضحاً فالوسيلة لا قيمة لها. فالعلم في معناه القرآني صفة من صفات الخشية والتقوى، فالقرآن وضع لنا قاعدة تكلم عنها العلماء وعلى رأسهم العز بن عبد السلام والإمام الشاطبي مفادها أن: (كل علم ليس تحته عمل فهو باطل)، وذلك أخذاً من قوله تعالى: (وّمٌنّ النَّاسٌ وّالدَّوّابٌ وّالأّنًعّامٌ مٍخًتّلٌفِ أّلًوّانٍهٍ كّذّلٌكّ إنَّمّا يّخًشّى اللَّهّ مٌنً عٌبّادٌهٌ الًعٍلّمّاءٍ إنَّ اللَّهّ عّزٌيزِ غّفٍورِ) (فاطر:28). فالعلم الذي لا يصل بالإنسان إلى هذا المستوى من الخشية، من الخوف من الله، من التعلق بالله عز وجل، ليس علماً. بل هذا صاحبه جاهل. ولذلك حتى في الأمثال الشعبيَّة المغربيَّة، يقولون: (حتى الشيطان عالم)، يضرب لمن لم يصل به علمه إلى التقوى والخشية. فالعلم الذي يبعد عن الله، تعالى، ليس علماً، لا يسمى علماً بحال من الأحوال.

فهذا واقع هذه الأمة اليوم، فصلت التربية عن التعليم، فلم يبق لا تربية ولا تعليم!

 

البيان: شيء طبيعي أن يقودنا سياق الحديث إلى معركة (التربية الإسلاميَّة) بكونها مادة معروفة في المُقرَّرات الدراسيَّة في المغرب، فقد كانت تفرض حيناً مادة إجبارية، وتترك حيناً آخر للاختيار، وتقرر في كل التخصُّصات حيناً، وتحذف من الجميع حيناً آخر، وهي كذلك في حال مد وجزر، حسب مذهبية من تولى الوزارة وأيديولوجيته، من هذا الاتجاه أو ذاك. واليوم تقوم ضجة كبرى حول محاولة الوزارة الوصية حذف هذه المادة من مُقرَّرات التعليم الثانوي. فإلى أي حد يشكل ذلك خطراً على الجيل؟ وإلى أي حد تسهم فعلاً هذه المادة في تكوين الاتجاه الفكري للتلميذ؟

 

د. خالد الصمدي:

فيما يتعلَّق بهذا السؤال، خاصة موقع مادة التربية الإسلاميَّة في النظام التعليمي والتربوي في المغرب، لا بأس في أن نرجع إلى الوراء قليلاً لكي أتحدث عن المحطات التاريخيَّة التي مرت بها المادة؛ فالمادة مرت بتسميات مُتعدِّدة: ففي بداية عهد الاستقلال، أي في الستينيات من القرن الماضي، كانت مادة التربية الإسلاميَّة في التعليم الابتدائي تدرس تحت اسم (مادة الدين)، ومرة تحت اسم (مادة الأخلاق)، ثم بعد ذلك في التعليم الأساسي والثانوي، كانت تدرس ضمن اللغة العربيَّة، كانت مادة اسمها (اللغة العربيَّة والتربية الإسلاميَّة). كانت مُقرَّرات التربية الإسلاميَّة غير مبرمجة، ولا معدة، ولا خاضعة لأي قاعدة من القواعد، وغالباً ما كانت تسند إلى أساتذة اللغة العربيَّة. وأستاذ اللغة العربيَّة في هذه الحالة يكتفي بتدريس اللغة العربيَّة غالباً، ولا يهتم بتدريس التربية الإسلاميَّة إلا فيما ندر. ثم بعد ذلك في نهاية السبعينيات استقلت المادة بنفسها، فأصبحت مستقلة عن مادة اللغة العربيَّة. فأصبحت التربية الإسلاميَّة مادة، واللغة العربيَّة مادة أخرى. لكن التربية الإسلاميَّة في هذه الحالة كانت تدرس بأساليب تقليديَّة وعتيقة، وبرامجها ومناهجها لم تكن تخضع في أي حال من الأحوال للبناء العلمي والمنهجي، ووسائل التعليم فيها كانت ضعيفة جداً؛ ولذلك فإن جيل الثمانينيات احتفظ بذكريات سيئة لمادة التربية الإسلاميَّة على أنّها مادة للحفظ، وأن المواضيع التي تدرس فيها مواضيع جافة لا علاقة لها بالسلوك اليومي للمُتعلِّم، أضف إلى ذلك أنها لم تكن مادة إلزامية في الامتحانات؛ فكان بعض الطلبة، نظراً لحسهم الديني، أو لحاجاتهم إلى الاطلاع على الجديد في مجال الثقافة الإسلاميَّة، يحرصون على حضور حصص تلك المادة تطوعاً.

 

ثم بعد ذلك لما أنشئت شعب الدراسات الإسلاميَّة في الجامعة المغربيَّة، في بداية الثمانينيات، كان لهذا الحدث وقع مهم جداً على واقع تدريس مادة التربية الإسلاميَّة في التعليم الأساسي والثانوي، إذ أصبحت المادة، لأول مرة في تاريخ المغرب الحديث، تسند إلى مجموعة من الأساتذة الذين لهم تكوين معرفي مرتبط بالعلوم الإسلاميَّة، لكن بقي الخلل قائماً من جهة أخرى، وهي أن شعب الدراسات الإسلاميَّة في التعليم العالي لا تحتوي على مواد تربويَّة بالمعنى (البيداغوجي) للكلمة. يعني أن برامج ومناهج شعب الدراسات الإسلاميَّة، كانت تقتصر بشكل كبير على مجال العلوم الإسلاميَّة، من فقه وحديث وأصول وتفسير، وما شاكل ذلك.

أما المواد التربويَّة وأقصد (النظريَّة التربويَّة الإسلاميَّة) بنفسها، أو (علم التربية الإسلامي)، فهذه لم تكن مادة مدرجة في المُقرَّرات أو في المناهج والبرامج التعليميَّة، وهذا ما انعكس بشكل كبير على وضعية الخريجين، لأن مراكز التكوين التي كان يتكوَّن فيها الأساتذة المتخرجون كانت قاصرة حينها عن تكوينهم، فالأساتذة المُكوَّنون أنفسهم لم يكن لهم تكوين تربوي (بيداغوجي) في التخصُّص الإسلامي، بقدر ما كان لهم تكوين في العلوم الإسلاميَّة العامة. فاقتصر التكوين على الجانب المعرفي الصرف، في حين أننا ما زلنا نفتقد في المغرب حتى الساعة: (1422/2001) التخصُّص التربوي الإسلامي. لا يوجد عندنا في المغرب مُتخصِّص واحد يحمل دكتوراه الدولة في تخصص (طرائق تدريس التربية الإسلاميَّة) مثلاً، علماً بأن هذا التخصُّص قائم بذاته في المدارس المشرقية، وعلى كل حال هو تخصص متجذر في الجامعات المصرية، والسعوديَّة، والأردنية، فانعكس هذا على بناء مُقرَّرات التربية الإسلاميَّة، بحيث ارتبطت بجانب العلوم الإسلاميَّة أكثر مما ارتبطت بجانب التربية الإسلاميَّة.

 

ولذلك لم يكن للمادة التأثير المرجو على سلوك المُتعلِّم. لكن ولله الحمد عرفت المادة في خمس السنوات الأخيرة تطوُّراً مهماً جداً، حينما بدأ الانفتاح على المُؤسَّسات المشرقية المُتخصِّصة في مجال التربية الإسلاميَّة عن طريق المؤتمرات التربويَّة، وعن طريق شبكة الإنترنيت، حيث سهل الدخول إلى المواقع المُتعدِّدة المرتبطة بمجال التربية والتعليم، والمعتمدة في مجال التربية الإسلاميَّة بشكل أخص، بحيث أتيحت الفرصة لتبادل التجارب وتبادل الخبرات، في بناء البرامج وبناء المناهج، وبذلك طورت مُؤسَّسات التكوين عتادها التربوي، ورصيدها المعرفي المرتبط بتدريس مادة التربية الإسلاميَّة. فكان هناك خريجون أسهموا في رفع مستوى تدريس المادة. وما زلنا نأمل حتى الساعة في فتح سلك التبريز في تخصص طرائق تدريس التربية الإسلاميَّة، وسنعمل إن شاء الله، تعالى، في هذا الاتجاه.

 

د. حسن العلمي:

محاربة مادة التربية الإسلاميَّة في المغرب، هي في الحقيقة من مخلفات الغزو العلماني، والغزو الثقافي الاستعماري الذي غزا أمتنا من خلال الهجمة الفرنسيَّة الفرنكوفونية التي غزت التعليم في الأساس. والآن صار للاستعمار خطط وأساليب ماكرة في العصر الحديث، فلقد يئس المستعمرون من لغة الحديد والنار، فبدلوا السلاح وجهة أخرى، وهي غزو الأفكار وغزو الضمائر، فأول ما فعلوه هو أنهم عزلوا التعليم الديني عن التعليم المدني، ففصلوا هذين بعد أن كانا مشتركين. وقد كانا إلى عهد قريب شيئاً واحداً. فنذكر أن في جامع القرويين، والأزهر، وفي الجوامع الإسلاميَّة، والجامعات العتيقة، كان يتخرج الأطباء، والمهندسون، والبيطريون، والمساحون، والرياضيون. وكانت العلوم الدينيَّة إلى جانب العلوم المدنية التي تبني الحضارة التكنولوجيَّة مقترنتين.

ولما أُخرِجَ التعليم من الجوامع وأُدخِل الجامعات الحديثة كانت هذه هي نقطة الفصل بين الدين والدنيا، حتى يتسنى لذلك الفتى المراهق أن يبعد عن دينه، بدراسته في جامعة بلا مراقبة شرعيَّة ولا تربية دينيَّة. هذه قضية استعمارية تاريخيَّة معروفة. الذي حصل هو أنه جاء بعد ظهور الصحوة الإسلاميَّة المعاصرة، وانتشارها في الأرض، ودخولها في مرحلة التمكين في بعض البلاد الإسلاميَّة ودخولها محناً مع الأنظمة، بدأت فكرة المخطط الذي وضع من طرف هؤلاء المكرة الصليبيين والماسونيين، ومن يعاونهم في البلاد العربيَّة الذي سمي بمخطط (تجفيف منابع الأصولية في العالم الإسلامي)، وأجهز على البقية الباقية من برامج التعليم الديني، فأُقصِيَ الإسلام عن كثير من المعاهد المدنية، والمدارس المدنية، وعُزِلت هذه الفئة التي كان ينتظر أنها هي التي ستحكم البلاد وتأخذ مواقع القرار والتأثير في البلاد الإسلاميَّة، عُزِلت عن أن تخضع للتأثير الديني والإسلامي، وأبقي للإسلام هذه الحصة التي تسمى: (التربية الإسلاميَّة).

 

ثم لم يزالوا بعد ذلك في كل وقت، وفي كل مرحلة من مراحل التغيير السياسي، فكلما جاءت حكومة نظرت لتكون (أرقى) من الحكومة التي سبقتها في التضييق على التربية الإسلاميَّة وتقزيمها، إمعاناً في محاربة الإسلام، فحوربت المادة من جهتين:

  1. من جهة تقزيم مُقرَّرها، وتقزيم ساعاتها، وأُعطي لها مُعَامِل ضعيف جداً! فمُعامِلُ اللغة الفرنسيَّة مثلاً، بتأثير من الاتجاه الفرنكوفونية بالمغرب، يقوَّم بخمسة أو ستة، بينما معامل التربية الإسلاميَّة لا يكاد يتعدى الواحد، وحصة واحدة في الأسبوع. ثم بدأ الناس يجادلون ويناقشون، ويأملون أن تصير في المخطط الحديث للإصلاح الآن مادة اختيارية، بل لم يسموها التربية الإسلاميَّة وإنما سموها: (الحضارة الإسلاميَّة). وكانت الجدالات والنقاشات في اللجان التي وكلت إليها مهمة تهيئة مشروع الإصلاح أن يحصر تدريس مادة التربية الإسلاميَّة في المستوى الابتدائي والإعدادي. وكان بعضهم يتبجح ويقول: عار علينا أن نعلم التلميذ الدين الإسلامي وهو في سن المراهقة؛ بل الواجب أن يتعلَّم ذلك في الصغر، أي في طفولته الأولى. هكذا أرادوا حتى إذا وصل إلى سن المراهقة عزل عن دينه، حتى يتسنى لهم ببرامجهم التعليميَّة الزائغة أن يفسِّقوه ويبعدوه عن دينه. ومن هنا فهذه المادة أصبحت لا تؤدي مفعولها الحقيقي وأثرها المرجو، وإن كان الله، سبحانه وتعالى، لا يترك هذا الدين من غير مؤثر، فعلى هزال ما فيها وقلة أساتذتها، فإنها لا تخلو من تأثير.
  2. الوجهة الثانية التي حوربت من خلالها التربية الإسلاميَّة فهي أنه أدخل إليها أساتذة غير مختصين في هذه المادة، بل أساتذة في بعض الأحيان لا يمثلون القدوة الإسلاميَّة، قد تجد منهم المدخنين، والسكارى، والمعربدين، بل والملاحدة أحياناً يدرسون التربية الإسلاميَّة، حتى يقال: هذا هو الإسلام. الإسلام هو قول بلا عمل. مرجئة جدد يظهرون الآن في هذا الزمان ليعلموا الناس أن الإسلام في القلب فقط، لا في العمل.

 

الشيخ محمد العمراوي:

من الخطأ التاريخي لهذه الأمة أن يتحوَّل التعليم في المغرب إلى تعليم علماني محض، المغرب الذي كان قبلة طلاب العلم في المشارق والمغارب، وتأسست فيه أول جامعة في التاريخ والتي هي جامعة القرويين، فجامعة القرويين لم تكن تدرس الفقه المالكي، والحديث النبوي، والنصوص القرآنية الكريمة فقط، بل كانت تدرس كل علوم الكون، كعلم الفلك، والرياضيات، كل العلوم الكونية. فالقرآن هو الذي أسَّس الأصول لنظريَّة المعرفة العلميَّة. ففي كتاب (التراتيب الإداريَّة) لعبد الحي الكتاني فصل رائع جداً يتعلَّق ببيان ذلك. إلا أنه عندما جاء الاستقلال تغير كل شيء مع الأسف، هذا الاستقلال الذي كان آباؤنا وأجدادنا يموتون من أجله، لا ليستقل المغرب عسكرياً، ويبقى مستعمراً في جانبه الثقافي، وإنما ليستقل استقلالاً تاماً، ومن بين معاني استقلاله التام أن يكون تعليمه مبنياً على الإسلام من أوله إلى آخره. فعلمنة التعليم خطأ كبير وقع فيه من يمكن تسميته بـ (المشرع المغربي) الذي وضع هذه البرامج، إن كان مغربياً في حقيقته. هذا جانب. والجانب الآخر أن مادة التربية الإسلاميَّة، جُعلت مادة معزولة مظلومة من جوانب مُتعدِّدة، فهي أولاً لا تحتوي على مُقرَّرات جيدة، وإنما يدرس فيها ما اتفق. إلا أن هذه السنوات الأخيرة بدأ فيها بصيص من النور يظهر في المُقرَّرات دون أن يُختار لها الأستاذ الكفء. ولعلك تعلم أن بعض الأساتذة الذين كانت تخصصاتهم في التاريخ والجغرافيا، أو الرياضة البدنيَّة، أو اللغة العربيَّة، إذا بهم بين عشية وضحاها يدرسون مادة التربية الإسلاميَّة، وأنتم تعلمون ذلك، ثم لا يختار لها حتى الوقت المناسب. وطامة الطامّات وداهية الدواهي أنه لا قيمة لمعاملها، ومن ثم فإن الطلاب لا يُقبلون عليها، ولا يرغبون فيها.

إذاً فالتعليم المغربي مظلوم كله، لأنه عُزل عن التربية الإسلاميَّة. ثم ظلمت مادة التربية الإسلاميَّة بهذه المظالم كلها، ومع ذلك فوجودها خير من عدمها، وهناك كثير من التلاميذ إنما تعلموا الصلاة وتعلموا الوضوء بهذه الطريقة. بل كثير من الأسر وصلهم الإسلام من جديد، يعني التزامه، والعودة إليه، وصلهم عن طريق أستاذ مقتدر من أساتذة التربية الإسلاميَّة يزرع هذه الروح في تلامذته، ويحوِّلهم إلى دعاة داخل بيوتهم، وداخل أسرهم. إذاً لا يجوز، ولا أسمح بعدّي مواطناً مغربياً، ولا أقبل بحال من الأحوال أن تحذف هذه البقية الباقية من التعليم الإسلامي في الأمة، على علاتها، من برامج التعليم. بل نحن نطالب أن تكون مادة التربية الإسلاميَّة هي المهيمنة على التعليم كله، بل وأن يكون التعليم كله يدور في فلك التربية الإسلاميَّة، كما كان في السابق.

 

الأستاذ أحمد إبراهيم:

إن حركة المد والجزر التي تتعرض لها شواطئ مادة التربية الإسلاميَّة بفرضها تارة وإلغائها أخرى، أو بتقليص الساعات المُخصَّصة لها، أو بتهميشها من خلال تقليص معاملها، وذلك حسب فكر من يتولى الوزارة لَخيرُ دليل على أهمية هذه المادة في بناء شخصيَّة الفرد المسلم، وتعريفه بما له وما عليه، بما يسهم في صنع أجيال بناءة ذات قيم ومثل عليا تدفعها إلى التضحية، وإيثار المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. ومما لا شك فيه أن الاتجاه الفكري للتلميذ يتأثر كثيراً بهذه المادة، خاصة إذا اجتمعت مجموعة من العوامل نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  1. المضامين والقيم والمثل التي تقوم عليها المادة.
  2. شخصيَّة المُعلِّم أو الأستاذ ومدى تشبعه بهذه المثل والقيم، ومدى تأثر سلوكه بتلك المضامين، ودرجة التواصل والمحبة بينه وبين التلاميذ، وهذا عنصر عظيم الأثر في درجة إقبال المُتعلِّمين على المادة، فالمريض قد يعود إلى عيادة الطبيب منجذباً بطريقة معاملة الطبيب وخلقه، على الرغم من وجود أطباء آخرين أكثر منه كفاءة، لكنهم أقل منه إنسانيَّة ورحمة.
  3. منهجيَّة تقديم مادة التربية الإسلاميَّة، فإن إضافة المذاق الحلو إلى الدواء المر يجعله مستساغاً مطلوباً، فكيف إذا كان الدواء في ذاته حلواً، وأضفنا إليه حلاوة أخرى من خلال منهجيَّة تقديمه؟
  4. قدرة المُعلِّم أو الأستاذ على تنزيل المفاهيم والمضامين على واقع المُتعلِّم، وبيان إمكانيَّة تطبيق المضامين، وأثر ذلك في مستوى الفرد والجماعة.
  5. امتداد العلاقة بين المُعلِّم والمُتعلِّم إلى خارج حدود قاعة التدريس أمر مهم جداً لإزالة الحواجز النفسيَّة التي قد تكون عند الكثير من التلاميذ، ولضمان الوقوف على مدى تطبيق التلاميذ لما يقدم لهم داخل قاعة الدرس، لمعرفة مواضع الخلل إن وجد، والإسراع في ترميم ذلك قدر الإمكان.

 

البيان: جاءت المسودة الأولى لإصلاح التعليم في السلكين الإعدادي والثانوي متضمنة لشعبة الموسيقى، وكذلك لما سمي بمادة (علوم الحركة) التي قيل: إنها كناية عن (مادة الرقص)، وفي المقابل كان هناك إغفال ملحوظ لمادة التربية الإسلاميَّة في كل الشعب الأدبيَّة والعلميَّة، فهل يمكن عَدّ وزارة التعليم كسائر الوزارات تتولاها أي حكومة لتفعل بها ما تشاء، أم أنها وزارة (وطنية) فعلاً، كما تنطق تسميتها (وزارة التربية الوطنية)، أي أنه عمل يهم كل أبناء هذا الوطن، ويخدم عمقه العقدي وهويته التاريخيَّة، ولا يجوز استغلاله لخدمة فئة ذات أيديولوجية خاصة؟ فهل يمكن عَدُّ التعليم فعلاً مجالاً حقيقياً مفتوحاً، لتصريف الإيديولوجيات والمذهبيات الفكريَّة؟ ألم يكن حرياً أن يعدّ وزارة من (وزارات السيادة)، كما هو حال وزارات العدل، والداخليَّة، والخارجيَّة، ثم الأوقاف والشؤون الإسلاميَّة، لا وزارة من (وزارات الحكومة) كما هو مصطلح عليه في الشأن السياسي في المغرب؟ ثم إلى أي حد يُعَدُّ هذا الأمر مؤثراً في الاستقرار النفسي والأمن الروحي للوطن؟

 

د. خالد الصمدي: 

دعني أؤكد لك في البداية أن المشروع التعليمي لأي بلد تقاذفه التوجهات التي تحاول ما أمكن تصريف مواقفها من خلال التحكُّم بمستقبل البلد الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي، وما شاكل ذلك. تبدأ الدورة عبر التمكُّن من ترسيخ نمط تعليمي معين، ومُحدَّد. وبالاطلاع على النظام التعليمي لأي بلد يمكنك أن تُحدِّد مستقبله على مدى (15) أو (20) سنة. لذلك يعيش المغرب الآن نقلة نوعيَّة، في محاولة إعادة النظر في مناهج التعليم بصفة عامة، من الأوَّلي إلى التعليم الجامعي، ويمكن أن أؤكد لك أن هذه الحركيَّة التي يعرفها ملف إصلاح التعليم في المغرب الآن، وبهذا الزخم الكبير تحدث لأول مرة منذ استقلال المغرب، لأنّ إصلاح مناهج التعليم منذ بداية الاستقلال إلى الآن كانت توكل إلى أشخاص بعينهم خبراء في المجال التربوي، يعتكفون في معتكفات خاصة، فتعتمد الدولة على خبرتهم وتجربتهم، لإنجاز برامج ومناهج يمكنها أن تلبي حاجة المغرب المتزايدة في هذا المجال، لكن إعادة النظر اليوم بشكل جذري في برامج ومناهج التعليم بمحاولة إشراك فئات واسعة من خبراء مغاربة في هذا المجال هو أمر في اعتقادي يحدث لأول مرة بهذا الشكل، ولذلك قد نعدُّها محطة مهمة جداً لمحاولة ترسيخ وهيمنة النظرة التربويَّة الإسلاميَّة للتعليم، كما قد يعدُّها غيرنا محطة مهمة جداً لترسيخ وهيمنة التصور الأيديولوجي العلماني على نظام التعليم في المغرب، فالمغرب على مفترق طرق في هذه القضية، ونظراً للتيارات الأيديولوجية والسياسيَّة الموجودة عندنا في المغرب، ونظراً لطبيعة الحكومة التي تسيِّر المغرب الآن، فمن الطبيعي أن يكون هناك صراع مواقع، لأنني كما ذكرت لك أن التحكُّم بالنظام التعليمي، ومحاولة ترسيخ نمط معين في بداية الألفية الثالثة سيحكم مستقبل المغرب طيلة عشرين أو ثلاثين سنة قادمة! لذلك لا عجب ولا غرابة في أن نرى هذا الصراع الكبير جداً المتعلق بإعادة النظر في البرامج والمناهج.

 

أما فيما يتعلَّق بما ذكرتم من كون مجموعة من الشعب الجديدة التي أدرجت في مسودة المقترحات التي هي مجرد مقترحات حتى الساعة: شعبة الموسيقى، وشعبة علوم الأنشطة الحركيَّة التي هي تسمية جديدة لشعبة التربية البدنيَّة والرياضة، بالإضافة إلى شعب أخرى كالتربية التشكيلية، وغيرها من الشعب، فيما يتعلَّق بالرقص في المسودة التي بين أيدينا الآن لا توجد مادة بهذا الاسم، وإن كانت هذه الشعبة حينما تحمل اسم (علوم الأنشطة الحركيَّة) فيمكن أن يندرج فيها كل ما يتعلَّق بالأنشطة الحركيَّة، بما فيها ما ذكرتم، لأن الأساس هو إقرار الشعبة أولاً، أما الحديث عن محتويات الشعبة فأمر داخلي. إذا أقرت الشعبة فيمكن أن يقرر في داخلها من المواد ما يمكن أن يحقق هذا المفهوم.

أؤكد مرة أخرى أن المجال مفتوح جداً في النظام التربوي التعليمي الآن، وخاصة في التعليم الثانوي لإدخال أكبر عدد ممكن من الشعب، بحيث وصل عدد الشعب المقترحة الآن إلى أكثر من (17) شعبة، وهذا لم يكن في التعليم الثانوي الحالي المعروف بما فيه التعليم التقني والعلمي والأدبي. الدافع الأساسي لهذا هو محاولة الارتباط بسوق الشغل، ومحاولة جعل التعليم مجرّد مهنة، وخاصة الاهتمام بالمقاولات الصغرى والمتوسطة، لكن هذا لا يخلو طبعاً مما ذكرتُ سابقاً من صراع أيديولوجي، لإثبات شعبة ونفي شعبة أخرى. وإذا ما اتجهنا إلى مادة التربية الإسلاميَّة كما ذكرتم، فإننا سنجد أن المقترحات التي كانت في المسودة السابقة حقيقة حملت إقصاء لمادة التربية الإسلاميَّة في حوالي (13) من أصل (17) شعبة، واقترح بديلاً عنها مادة تسمى بـ (مادة الحضارة الإسلاميَّة) وأدرجت في (المُكوَّن الاختياري) أي أنها مادة اختيارية يمكن أن يختارها المُتعلِّم في الاختبارات، ويمكن ألّا يختارها، ومن الطّبيعي أنّه لو وضعت أمام مادة الحضارة الإسلاميَّة مجموعة من الاختيارات الأخرى كالإعلاميات، أو الوسائل السمعيَّة البصريَّة، وغيرها من المواد المشوقة اليوم، فشيء طبيعي أن يختار التلميذ المواد ذات الصبغة التقنيَّة والعلميَّة أكثر من المواد ذات الصبغة التلقينيّة المعتمدة على الحفظ وما شاكل ذلك.

 

الأستاذ أحمد إبراهيم:

التعليم مجال خصب ومناسب جداً لتصريف الأيديولوجيات والمذهبيات الفكريَّة، بل أظنه أنسب المجالات لذلك، وخاصة وهو يستقبل الإنسان طرياً يسهل تشكيله. وإدماج مادة الموسيقى وعلوم الحركة (مسرح، رقص، إلخ) في ظل اكتظاظ البرامج التعليميَّة بالعديد من المواد مختلفة الطباع، وفي ظل الساعات المُحدَّدة التي يقضيها التلميذ في المدرسة التي لا تقبل الزيادة، سيكون بلا شك على حساب مادة من المواد الأخرى المدرَّسة، وبالتحديد مادة من المواد التي يسميها الكثيرون بالمواد غير الأساسيَّة وعلى رأسها، مع الأسف، مادة التربية الإسلاميَّة التي يقلصون الساعات المُخصَّصة لها عاماً بعد عام. فلا يخفى على أي إنسان ذي بال أن ذلك يدخل ضمن منهجيَّة التدرج في تهميش مادة التربية الإسلاميَّة لطمس معالم الشخصيَّة المسلمة.

 

البيان: علمنا أن اللجنة الوزارية اقترحت بدل مادة (التربية الإسلاميَّة) مادة (الحضارة الإسلاميَّة) فما رأيكم في هذا الحرص على استبدال مصطلح (تربية)؟ وما يضير المادة أن تسمى بهذا الاسم أو ذاك ما دامت مقيدة بنسبة (الإسلاميَّة)؟

 

د. خالد الصمدي: 

هذا سؤال مهم جداً يحتاج إلى تبسيط، لأنه سؤال جوهري ومحوري. فمصطلح (التربية الإسلاميَّة) يَسِمُ مادة تعليميَّة في النظام التربوي التعليمي في المغرب، هذا المصطلح أثار كثيراً من الجدل، ولا يزال، ويمكن أن أؤكد لك أنه في بعض البلدان العربيَّة أيضاً، هناك صراع كبير جداً حول محاولة تغيير اسم (التربية الإسلاميَّة) إلى مسميات أخرى، لأن طبيعة التسمية تتحكم في محتوى المادة، فعلى سبيل المثال في لبنان هناك جدل كبير جداً لتغيير مصطلح (التربية الإسلاميَّة)، (بالتربية الدينيَّة)، على أساس أنّ السكان في لبنان منهم مسيحيون ومنهم مسلمون، وفي الصيف الماضي أيضاً وجدت صراعاً في مصر حول تسمية (التربية الإسلاميَّة)، على الرغم من أن المسيحيين في مصر يشكلون أقلية، ولكن مع ذلك يدافع كثير من المهتمين بمجال التربية والتعليم في مصر عن تسمية (التربية الدينيَّة) عوض (التربية الإسلاميَّة). والآن المصطلح الرائج في مصر هو مصطلح (التربية الدينيَّة الإسلاميَّة). وأعتقد أن هذه محطة أولى في اتجاه حذف صفة (الإسلاميَّة)، وإبقاء (التربية الدينيَّة).

أما عندنا في المغرب، وهو بلد إسلامي لا أقلية مسيحية فيه، فالغريب أنّ الشيء نفسه يقع، لأن الصراع التعليمي الآن في البلدان العربيَّة والعالم الإسلامي يكاد يتزامن، بحيث إن مشاريع الإصلاح الآن موجودة في الأردن، وفي لبنان، وفي مصر، وفي غينيا من الدول الإسلاميَّة. ونحن عندنا في المغرب شيء طبيعي أن ندافع عن مصطلح (التربية الإسلاميَّة)، وألا نرضى عنــه بديــلاً؛ لأن المقترحات التي كانـت هي (العلوم الإسلاميَّة)، و (الحضارة الإسلاميَّة)، و (الفنون الإسلاميَّة)، وما شاكل ذلك، عوض (التربية الإسلاميَّة). نحن لن نقبل هذا لسبب بسيط هو أن تلك التسميات الأخرى هي عبارة عن تخصصات توجد حتى في الجامعات الأوروبية، والمُؤسَّسات الغربيَّة. فالحضارة الإسلاميَّة يدرسها حتى اليهود والنصارى وغيرهم لأنها ثقافة عامة، لكن (التربية الإسلاميَّة) بكونها نسقاً خاصاً له ارتباط بالجانب الاعتقادي، والتعبدي، وما شاكل ذلك، وكذا التوجيه السلوكي للإنسان الصحي، والبيئي، والإعلامي، والتواصلي، والأسري، والاجتماعي. لا يتم إلا (بالتربية الإسلاميَّة).

 

فهذا كله هو روح مادة التربية الإسلاميَّة، وهي بهذا لا يمكن أن يتلقاها إلا المسلم. فبما أننا في بلد مسلم، وأن نظامنا التعليمي يهدف إلى تكوين الإنسان المسلم الذي يعتز بعقيدته ودينه، فالمصطلح المناسب في اعتقادي هو (التربية الإسلاميَّة) لا غير. وإن كان التحدي الكبير الذي نتعرض له حالياً، بالإضافة إلى المصطلح، هو في محاولة تمتين التطابق والانسجام بين طبيعة التسمية، وطبيعة المحتوى، ذلك أن هذا من المفارقات الكبيرة جداً التي نعيشها الآن، إذ إن المادة هي تحت اسم التربية الإسلاميَّة، لكن المحتوى هو مرتبط بالعلوم الإسلاميَّة أكثر، من فقه، وحديث، وأصول، وهذه النقطة أثارت تساؤلات كبيرة جداً في أكثر المحاضرات، والندوات، واللقاءات العلميَّة، التي نظمت على الصعيد الوطني، بحيث كانت هناك حسب ما أتذكر حوالي ثلاثة مقترحات: فمنهم من اقترح تسمية (العلوم الإسلاميَّة)، حتى ينسجم المحتوى مع المضمون، ومنهم من اقترح الحفاظ على تسمية (التربية الإسلاميَّة) مع محاولة تطعيم المُقرَّرات بما هو تطبيقي سلوكي، ومنهم من اقترح الإبقاء على مادة (التربية الإسلاميَّة)، ولكن مع إعادة النظر في المحتوى كلية لكي يتلاءم مع المحتوى.

 

ونحن نرى أن هذا الاقتراح الثالث هو الأهم، بحيث نعتقد أن جميع المواد التي تحمل صفة (التربية) في النظام التعليمي لها طابع تطبيقي، ولها ارتباط واسع جداً بالجانب السلوكي. فأنا لا أتصور أن أستاذاً للتربية البدنيَّة على سبيل المثال سيجمع التلاميذ في صف من الصفوف، ثم يحدثهم عن تاريخ التربية البدنيَّة طيلة الموسم الدراسي، فهي تربية بدنيَّة من حيث إنها سلوك عملي، وممارسة بدنيَّة. كما لا أتصور أن أستاذ الفنون التشكيلية، أو التربية الفنيَّة، أو الرسم سيجمع التلاميذ في صف، ثم يحدثهم عن (بيكاسو)، وعن تاريخ الرسم فقط دون أن يعلمهم كيف يستعملون الفرشاة ويخلطون الألوان. نعم! الجانب النظري ضروري، لكن بهامش ضيق وتابع. فالجانب التطبيقي العملي هو الجانب المقصود بالأصالة في مسمى (التربية). كذلك (التربية الإسلاميَّة) فإن الجانب المعرفي فيها لا يغفل، لكن الجانب العملي التطبيقي هو الذي يجب أن نقصد إليه في المُقرَّرات، والبرامج، والمناهج الموضوعة لبناء سلوك التلميذ المغربي حتى يكون له سلوك تعبدي، وسلوك عقدي، أو قل بكلمة جامعة: سلوك إسلامي، داخل المجتمع، وداخل الأسرة، وتجاه وسائل الإعلام، وتجاه البيئة وهكذا.

 

هذه السلوكات كلها ينبغي أن توجه التربية الإسلاميَّة وتصوغها. ولذلك ينبغي في اعتقادي أن تكون وحدات التربية الإسلاميَّة بدل علوم القرآن، وعلوم الحديث، والأصول، ينبغي أن تكون وحدات مرتبطة بالسلوك التعبدي، فتكون هناك (تربية تعبدية)، و (تربية عقدية)، و (تربية فكريَّة)، و (تربية اجتماعيَّة)، و (تربية أسريَّة)، و (تربية تواصلية)، من حيث إننا نواجه يومياً تربية مضادة للتربية الإسلاميَّة مما تعرضه وسائل الإعلام والمعلومات يومياً.

فلذلك أعتقد بأن هذه المحاور التربويَّة هي وحدات مُكوَّنة لمادة التربية الإسلاميَّة على أساس أنها تنصرف مباشرة إلى سلوك المُتعلِّم. فهذا الأمر يحتاج في الواقع إلى إعادة النظر في هيكلة مُقرَّرات وبرامج ومناهج مادة التربية الإسلاميَّة في التعليم العام لكي ننتقل من تدريس العلوم الإسلاميَّة إلى تدريس التربية الإسلاميَّة. علماً أن العلوم الإسلاميَّة نفسها هي المادة الخام التي ستشكل جل هذه المناهج والبرامج. وعلى سبيل المثال عوض تدريس درس تحت عنوان: (أسباب النزول)، فنتحدَّث فيما هو معرفي عن تعريف أسباب النزول، وعن أنواعها، يمكنني أن أتحدث في إطار التربية الإسلاميَّة عن مقاصد تلك الأسباب، وآثارها على مستوى التربية الإيمانية مثلاً، أو التربية الصحيَّة، أو التربية البيئيَّة، أو التربية الاجتماعيَّة والأسريَّة…إلخ، مُوظَّفاً في ذلك نصاً من القرآن أو من السنة، يتضمَّن مفاهيم عقدية، أو اجتماعيَّة، أو صحيَّة، أو وقائية، لكن يوظف فيه سبب نزول الآية، أو سبب ورود الحديث بما يخدم الجانب السلوكي التطبيقي للتلميذ.

على أنّ التلميذ في مرحلة التعليم الثانوي، ومرحلة التعليم الأساسي ينبغي أن يتوجه التكوين بالنسبة إليه إلى المجال السلوكي والمجال الوجداني، بحيث إنه في مرحلة تشكيل التصوُّرات والمفاهيم وصنع الاتجاهات. أما المجال المعرفي فيمكن أن يتدارك في أي وقت، وله مجال آخر في غير التربية الإسلاميَّة، ذلك لأّنّ الجانب السلوكي والجانب الوجداني إذا حرم منهما الطفل في مرحلة ما بين عشر سنوات، وبين ثمانية عشر سنة من عمره، فإني أعتقد أنه يصعب أن يكتسبه فيما بعد، بخلاف الجانب المعرفي الذي يمكن أن يُتدارك في كل وقت.

 

الأستاذ أحمد إبراهيم:

الاقتراح المقدم لتغيير اسم مادة التربية الإسلاميَّة، بأن نستبدل بها مادة الحضارة الإسلاميَّة ما هو إلا خطوة من خطوات تهميش مادة التربية الإسلاميَّة، فالمتأمل في الاسم المقترح يدرك المرمى البعيد للداعين إلى ذلك التغيير، لأن مادة التربية الإسلاميَّة مادة تحكمها قواعد فقهيَّة، وأصول، ونصوص صحيحة، ومحفوظة. أما الحضارة فهي تشتمل على مضامين تعكس وجهات النظر المختلفة والتيارات أكثر مما تعكس الحقيقة الدينيَّة الصافية، بما يضمن سهولة تمرير الأيديولوجيات والمذهبيات الفكريَّة إلى أذهان المُتعلِّمين.

 

البيان: هناك من يرى أن التعليم كي يكون ناجحاً، فيجب أن يتمتَّع بأقصى ما يمكن من الحرية، فلا يلتزم ضرورة بتلقين قيم ثابتة، لأن التلميذ حينما يتمتَّع بالحرية، فإنه يختار قيمه عن اقتناع، أما إذا فرضت عليه فإنه يتمرد عليها، ويحدث له حينئذ انفصام شخصي، ومفارقة للمجتمع، بينما يرى آخرون أن التعليم يجب أن يلتزم قيم المجتمع الذي ينهل من ماله العام، والذي به يكون استمراره. كيف يمكن مقاربة الأمرين: الحرية والالتزام في التربية والتعليم؟

 

د. خالد الصمدي: 

يمكنني أن أقول إنه لا يوجد نظام تعليمي يعتمد هذا المفهوم الذي ذكرتم، وهو الحرية المطلقة في تلقي وتعلم القيم والمبادئ، فكل مجتمع له قيمه مهما ادعى من الحرية، وتعليمه تبع له. نعتقد أنه حتى الانفلات من القيم بصفة نهائية هو سلوك قيمي. أي هو قيم في حد ذاته. فلا يمكنك أن تنفلت من القيم مطلقاً، إلا أن تقع في قيم أخرى، ولذلك كان الانفصال بين النظام التعليمي والقيم أمراً غير منطقي، والدعوة إليه خدعة، إذ لا بد لكل تعليم من أن يرتبط بقيم مُحدَّدة كيفما كان نوعها. إذاً مفهوم الحرية في هذه الحالة هو مفهوم نظري ليس إلا، فليس له طابع تطبيقي عملي. فوجب على كل نظام تعليمي أن يحدد استراتيجيَّة كبرى بأن يحدد مقاصد وأهدافاً عامة. ولا يخلو أي نظام تربوي تعليمي من هذا. وأعتقد بأنّ الإشكال ليس في الإلزام أو التزام قيماً مُحدَّدة، إنما هو في طريقة تبليغ هذه القيم، وطريقة نقلها إلى الأجيال. فإذا كان هناك أسلوب تقليدي يعتمد التلقين، ويعتمد الحفظ المجرد، ويعتمد النظريات التربويَّة البالية، فشيء أكيد أن أثر هذا التعليم في نقل القيم سيكون ضئيلاً، ويكون ضعيفاً، لأنه يعتمد بشكل كبير على السلطة، أكثر مما يعتمد على الحِكمة. أما إذا كان نقل القيم بناء على ثلاثة أمور:

  • الأول: رصد حاجات المُتعلِّم المناسبة له.
  • الثاني: مخاطبته بالوسائل التي يفهمها.
  • الثالث: إيصال هذه المفاهيم بالوسائل المبنية على الحوار والنقاش والإقناع.

فشيء أكيد أن هذه القيم تنتقل بسلام من جيل إلى جيل آخر. فأنا لا أرى أن الأزمة أزمة علاقة بين الحرية والالتزام بقدر ما أرى، والله أعلم، أن العلاقة هي علاقة تكامل في الأساس بينهما حتى يتم نقل القيم إلى المُتعلِّم بشكل ينساب إليه، دون أن يلحظ نوعاً من القهر، أو نوعاً من الإجبار. وأعتقد أن هذا هو التحدي الكبير الذي يرفع في وجه الأنظمة التعليميَّة. فالأزمة ليست أزمة برامج في الدرجة الأولى، ولا هي أزمة مناهج، بقدر ما هي أزمة طرائق تعليميَّة، ووسائل تربويَّة.

 

د. حسن العلمي:

الحقيقة أن هؤلاء الناس ليسوا أحراراً في أفكارهم. القوم عبيد لمنظومة علمانيَّة تؤخذ وترضـع مـن لبان العولمة الثقافيَّة. وما يسـمى الآن بـ (الثقافة الكونية)، أو (الثقافة الإنسانيَّة) التي ليس لها هوية، تجعل الإنسان لا هو مسلماً، ولا هو يهودياً، ولا هو نصرانياً، ولا هو مجوسياً، يعني (دعه يقل، دعه يفعل، دعه يتكلَّم). هذه الحرية هي نوع من الحيوانية البهيمة التي تتبع الغرائز والأهواء والأذواق والشهوات، ولا تحكم المنطق والعقل، ولا تحكم ما ينفع الأمة، ولا ما يقدم الخير لها.

يعني لو كان هؤلاء الناس أحراراً في أفكارهم حقاً، وكانوا يصدرون عن ذواتهم وعن اجتهاداتهم، وكانوا أصحاب مبادئ، لكان الكلام معهم كلام الرجال مع الرجال، لكن الوضع غير هذا، ولذلك فإننا نقول: إن الذين تأخذهم الغيرة على أوطانهم، وعلى لغتهم، وعلى حضارتهم يتكلَّمون من منطق سليم، ويرون أن الأمة التي تنفق الملايين، وتنفق من دمها على هذه الأرض، وعلى هذه الحضارة، يجب أن تُحْترَم مشاعرها، وتحترم هويتها. فالأمة لا تريد أن تدفع مالاً لتحارَب به، تدفع مالاً لتحرق نفسها في نار جهنم. هؤلاء الناس يريدون مجتمعاً يرتبط بالأرض، والأمة تريد قوماً يرتبطون بالسماء، يرتبطون بالله عز وجل. فالأمة التي تختار الدين، وتختار الإسلام، هي أمة مسلمة، فلماذا يفرض عليها من طرف نخبة علمانيَّة قليلة أن تخرج عن ذاتها، وتكفر بربها؟

فالعلمانيَّة اليوم في المغرب قد تتجلى عبر صوت الأمازيغية التي تنادي بتعليم اللغة الأمازيغية، والتفكير في الأمازيغية، والكتابة بالأمازيغية ليقولوا للعالم: انظروا هؤلاء الناس جذورهم كانت غير إسلاميَّة. يريدون بذلك العودة إلى الحضارة البرغواطية، وفكر الساحرة جارزيس، يعني الكفرة الذين كانوا يعبدون الأوثان في بلاد المغرب، ولذلك يرفعون هذه الشعارات، ويقولون إن الإسلام دخيل، وإن العرب غزاة، مع أن الإسلام هو الذي صنع المغرب. الحقيقة أن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الأمة. وحرية الأمة في عقيدتها وفكرها أوْلى من حرية الأفراد النشاز الذين هم شرذمة قليلون مقلدون للغرب، وليسوا رجالاً مُفكِّرين من الذين يمكن لهم أن ينظروا، أو يقبل قولهم في مثل هذا المجال.

 

الأستاذ أحمد إبراهيم: 

إنّ الحرية بدون التزام فوضى مقنعة، ودعوة إلى تمزيق الجسد الواحد للأمة التي يمثل كل فرد فيها عضواً منه. قال أحد علماء التربية في أمريكا: (إذا أردت أن تعلم ابنك القيم، والمثل، والمبادئ، فعلمه إياها في الوقت الذي لا يناقشك فيه). فإذا أضفنا إلى تجربتنا بأرض الواقع قول هذا العالم، أمكننا الجزم بأنّ التزام قيم ثابتة، نلقنها للمُتعلِّم، وندربه عليها، ضروري في المراحل الأولى للتربية التي لا يحسن فيها المُتعلِّم الاختيار لقلة تجربته من جهة، ومن جهة أخرى لاعتماده في الاختيار على التقليد أكثر من اعتماده على العقل المستقل على أن نعطي له في مراحل مُتقدِّمة الاختيار بما لا يتناقض مع جوهر مفهوم الحرية، فلا يضر نفسه أو مجتمعه. وصدق من قال: (ومن يكن راحماً فليقسُ أحياناً على من يرحم)، ففي فرنسا مثلاً يمكنك اختيار المعهد، أو الكلية التي تدرس فيها بحرية في أي مدينة، ولكنك إذا قبلت، فإنك تتقيد وتلتزم بدراسة بعض المواد الخاصة بهذه المدينة المعمارية التي تلزم الدارسين بمعرفة مواطن الجمال فيها، وتعليمهم كيفيَّة المحافظة على رموز ذلك الجمال.

 

البيان: عرف تعريب التعليم في المغرب تعثراً شديداً، بسبب تعصب الفئة الفرنكوفونية لمصلحة التدريس باللغة الفرنسيَّة، فكان أن عُرِّبَ في خضم الصراع السياسي بعض مراحل التعليم، تعريباً جزئياً لم يسلم من انتقادات، وبقي الآخر فرنسياً على ما كان عليه في العهد الاستعماري، فإلى أي حدٍّ يمكن أن يؤدي التعريب فعلاً دوراً حقيقياً وفعَّالاً في معركة الهوية في المغرب؟ ثم إلى أي حد يمكن الاعَتّتاد بما تدعيه الفئة الفرنكوفونية من أن التعليم باللغة الفرنسيَّة يسهم في تطوير القدرات العلميَّة للتلاميذ، وكذا قدرتهم على المواكبة العالميَّة؟

 

د. خالد الصمدي:

أعتقد أن الإشكال بخصوص هذه النقطة يسير في اتجاهين: الاتجاه الأول هو لغة التدريس، والاتجاه الثاني هو تدريس اللغة. فيما يتعلَّق بالجانب الأول، وهو لغة التدريس، فشيء عادي وطبيعي في مجتمع عربي إسلامي أن تكون لغة التدريس هي اللغة العربيَّة. هذا من حيث المبدأ، مع الانفتاح طبعاً على تعلم اللغات الأخرى. بالنسبة إلى نظامنا التعليمي في المغرب، بعد عهد الاستقلال، كانت مجموعة من المواد الأدبيَّة والإنسانيَّة تدرس باللغة الفرنسيَّة كالتاريخ والجغرافيا والفلسفة، بالإضافة طبعاً إلى المواد العلميَّة المعروفة، كالكيمياء والفيزياء والرياضيات، وغير ذلك. وكان كل ذلك بدعوى تحديث النظام التربوي، والنظام التعليمي في المغرب. وبدعوى أن هذه العلوم نفسها نشأت في محاضن الغرب. إذاً شيء طبيعي ألّا تستوعب إلا بلغة الغرب. لكن هذا الطرح فاسد من أساسه، على أساس أنّ اللغة الفرنسيَّة الآن تراجعت بشكل كبير جداً، حتى على الصعيد العالمي، في البحث العلمي والتكنولوجي، وأصبحت الصدارة للغة الإنجليزية. إذاً ليس هناك مسوغ لكي نقول: إن التدريس باللغة الفرنسيَّة سيساهم في انفتاح التلاميذ على العلوم الكونية بشكل أفضل. ثم إن تجارب بعض الدول في تعريب النظام التعليمي قد أدى إلى تحقيق مكتسبات مهمة جداً في نظام التربية والتكوين.

 

مجلة البيان

إعداد: د. فريد الأنصاري