التعليم عن بعد: مفهومه، تطوره، متطلباته، الحاجة إليه، شروط نجاحه وتطبيقه

ساعد التطوُّر المتسارع في التقنيات المعلوماتيَّة والاتصال الحديثة على رواج استخداماتها التعليميَّة، مما أدى إلى زيادة كفاءة أشكال التعليم عن بُعد، وبروز صنوف جديدة، أكثر فعاليَّة، منها، ورسوخ مقاربة التعليم "مُتعدِّد القنوات". إذ يمكن، من حيث المبدأ، التفرقة بين التعليم عن بُعد كبديل للتعليم التقليدي (حيث يترتب على الالتحاق ببرنامج للتعليم عن بُعد إكمال مرحلة تعليميَّة أو الحصول على مؤهل)، وبين التعليم عن بُعد كمكمّل للتعليم التقليدي في سياق "التعليم مُتعدِّد القنوات"، الذي تقوم فيه أشكال من التعليم عن بُعد في ضفيرة حول التعليم في المُؤسَّسات التعليميَّة النظاميَّة.



وقد أصبح التعليم عن بُعد، وتعدد القنوات التعليميَّة، عنصرين جوهريين، ومتناميين، في منظومة التعليم المتكاملة في المجتمعات الحديثة. ومعروف أن نسق التعليم في البلدان النامية يعاني أوجه قصور ومشكلات يظهر أن التعليم عن بُعد، خاصة في سياق التعليم مُتعدِّد القنوات، يمكن أن يساهم في مواجهتها. ويقع على رأس قائمة القصور هذه مشكلات الاستبعاد من التعليم التقليدي بسبب النوع أو البعد المكاني، أو الفقر. ولا يقل عن ذلك أهمية انخفاض نوعيَّة التعليم، وضعف العلاقة بين التعليم ومقتضيات التنميَّة والتقدُّم.

غير أن مشكلات نسق التعليم، وسمات السياق العام للتعليم في البلدان النامية، يمكن أن تُنتج أنماطا من التعليم عن بُعد مشوهة وقليلة الكفاءة إذا لم يخطط لها بروية، وتوفر لها الإمكانيات الكافية. كذلك قد يفاقم اعتماد تعدد القنوات التعليميَّة، دون تحسب دقيق، من مشكلات تنظيم الأنساق التعليميَّة وإدارتها بكفاءة. ولذلك فإن الاستغلال الناجع للتقنيات المعلوماتيَّة والاتصالات الحديثة في التعليم عن بُعد، والتعليم مُتعدِّد القنوات، يمثل تحديا ليس بالهين.

مفهوم التعليم عن بعد:

حيث المبدأ، يقوم التعليم عن بُعد على عدم اشتراط الوجود المتزامن للمُتعلِّم مع المُعلِّم في الموقع نفسه. وبهذا يفقد كلا المُعلِّم والمُتعلِّم خبرة التعامل المباشر مع الطرف الآخر. ومن ثم تنشأ الضرورة لأن يقوم بين المُعلِّم والمُتعلِّم وسيط. وللوساطة هذه جوانب تقنيية وبشريَّة وتنظيميَّة. كما يمكّن التعليم عن بُعد المُتعلِّم من اختيار وقت التعلُّم بما يتناسب مع ظروفه، دون التقيد بجداول منتظمة ومُحدَّدة سلفا للقاء المُعلِّمين، باستثناء اشتراطات التقويم. الأمر الذي يعنى حضور "المدرسة" للمُتعلِّم بدلا من ذهابه إلىالمدرسة في التعليم التقليدي.

وينطوي كل ذلك، في النهاية، على غياب القرناء بالمعنى التقليدي في كثرة من أشكال التعليم عن بُعد. ولكل ذلك لا يمكن أن يقوم نسق فعَّال من التعليم عن بُعد في غياب تواصل قوى، ومتبادل، بين المُعلِّم والمُتعلِّم عن بعد، ويفضل أيضاً بين قرناء على البعد، يتكيَّف حتما بالتقنية ووسائط الاتصال المُستخدَمة. إذ إنَّ غياب هذا التواصل يعنى تدهور التعليم عن بُعد إلى صورة "حديثة" من التعليم بالمراسلة من خلال الدرس المستقل للمُتعلِّم.

تطور التعليم عن بعد:

في البداية، كان التعليم عن بُعد يعني التعليم بالمراسلة، أي أن الوسيط كان الخدمة البريديَّة التي تنقل مواد مطبوعة، أو مكتوبة، بين المُتعلِّم والمُعلِّم. ولكن جعبة التقنيات التي تستعمل في التعليم عن بُعد تتسع حاليا لتشمل مجموعة كبيرة من تطبيقات الحواسيب ووسائط الاتصال الحديثة كالأقمار الصناعيَّة. فتوفر تطبيقات الحواسيب حاليا سبل نقل النص، والصورة، والحركة، والخبرة الحسيَّة (من خلال أساليب "الحقيقة الظاهرية") كأساليب للاتصال تبرز أحيانا ما يوفره أقدر المُعلِّمين في قاعات التدريس العادية. ويمكن الآن باستخدام الأقمار الصناعيَّة الاتصال هاتفيا وتوصيل البث الإذاعي، صوتا وصورة، لمواقع نائية دون شبكات بنية أساسيَّة أرضية مكلفة.

فحيث يمثل التعليم بوجه عام وظيفة أساسيَّة في المجتمعات البشريَّة، كان طبيعيا أن تتغير أشكال التعليم بوجه عام، وتتطوَّر، مع تصاعد التطوُّر التقاني. وحيث يعتمد التعليم عن بُعد بوجه خاص على تقنيات الاتصال، مهّد كل طور من التطوُّر في هذه التقنيات لبزوغ الأشكال المناسبة له من التعليم عن بُعد. فتطوُّر شبكات البريد أنتج التعليم بالمراسلة عبر المواد المطبوعة والمكتوبة. وأدى بدء البث الإذاعي إلى استخدام الراديو في التعليم. وبتقدم الصناعات الكهربائية والإلكترونيَّة ازداد دور الصوتيات بشكل عام في التعليم من خلال أجهزة التسجيل، ثم ظهر التلفزيون، وتلاه الفيديو. وازدادت أهمية أشكال البث التعليمي، سماعاً ورؤية، مع شيوع استعمال الأقمار الصناعيَّة. وبانتشار الحواسيب الشخصيَّة وشبكات الحواسيب، أصبحت تطبيقات الحواسيب، خاصة تلك القائمة على التفاعل، من أهم وسائل التعليم عن بُعد، وأكثرها فعاليَّة، وعلى وجه الخصوص في ميدان التعلُّم الذاتي.

في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، منحت أولى تراخيص "الراديو التعليمي" في العشرينيات الأولى من القرن الحالي، وبدأ البث التلفزيوني التعليمي في عام (1950). ولم تنشأ أولى، وربما أهم، الجامعات المفتوحة إلا في عام (1971) في بريطانيا. وبدأ استخدام شبكات الحواسيب في التعليم والتعلم في الولايات المتحدة الأمريكية عندما وفرت "مُؤسَّسة العلم القومية" للجامعات الأمريكية فرصة استعمال شبكة الإنترنت في منتصف الثمانينيات. وتلا ذلك، أي في التسعينيات، بدء انتشار استعمال الوسائط الحاسوبية في التعليم قبل الجامعي، وفى أماكن العمل وفى البيوت.

متطلبات التعليم عن بعد:

لكل نوع من التعليم عن بُعد، وفى الواقع لكل هدف تعليمي مُحدَّد وسائط تقنية أكثر مناسبة من غيرها، فالراديو يساعد على شحذ الخيال، والتلفزيون فعَّال في التعامل مع الأحداث المركبة، والحواسيب تناسب اكتساب المهارات الناجمة عن التكرار والممارسة والتفاعل (وبالمناسبة، تدل البحوث الحديثة في تكوّن الذاكرة طويلة الأجل على الدور الجوهري لتكرار الخبرة). ولذلك فإن تعدد الوسائط التقنية، في سياق التعليم مُتعدِّد القنوات، يوفر مجالا أرحب لإثراء العمليَّة التعليميَّة. كذلك يتكيَّف استخدام الوسائط التقنية بظروف المجتمع المُحدَّد الذي تقوم فيه، سواء من حيث التوافر، أو النوعيَّة أو كفاءة الاستغلال.

وتجدر الإشارة هنا إلى ملحوظتين أساسيتين:

  1. أن استعمال أشكال التعليم عن بُعد المختلفة والتركيز النسبي على أي منها، في أي مجتمع، رهن بالتشكيلة التقنية القائمة فيه وبمقوماتها المجتمعية، بما في ذلك البنية الأساسيَّة والتنظيميَّة.
  2. إن استخدام الأشكال الأكثر فعاليَّة من التعليم عن بُعد، تلك التفاعليَّة باستخدام الحواسيب والشبكات، والمؤثرة في نوعيَّة التعليم، حديث نسبيا حتى في المجتمعات المُتقدِّمة. وأن هذه الأشكال هي في الوقت نفسه الأكثر كثافة تقنياً، والأعلى تكلفة، والأكثر حاجة لبنى تحتية مكلفة هي الأخرى. والبلدان النامية مستقبلة متأخرة لهذه الإمكانيات، ومن ثم لن يمكن، وفق مجريات الأمور الراهنة، التوصُّل لها إلا لأقلية، تتضاءل في المناطق الأفقر.

ويقل توافر وسائل الاتصال الحديثة في البلدان النامية مع حداثة وسيلة الاتصال، وارتفاع ثمنها (التليفون والفاكس والحواسيب والإنترنت) ومدى حاجتها لبنية أساسيَّة مكلفة (التليفون والفاكس والإنترنت). وبعبارة أخرى، يقل توافر وسائل الاتصال كلما زادت فعاليتها في التعليم عن بُعد، ومن باب أولى، في التعلُّم الذاتي عن بعد. كذلك يتعيَّن ملاحظة أن المهم ليس مجرد الوجود، ولكن مدى إمكان الاعتماد عليها، فمازال البريد العادي غير مضمون وصوله، ناهيك عن وصوله بسرعة، إلى عموم القطر، وتقلل الأعطال المُتكرِّرة من الاستفادة من وسائل الاتصال الباقية، في بلدانٍ نامية. والنوعيَّة مسألة حتى أعقد. وهنا تثار أمور مثل: هل تصل التليفونات "كابلات" نحاسية تقليديَّة أو ألياف ضوئية، وأي أساليب نقل المعلومات تُطبَّق في الشبكات؟ حيث تحدد هذه الفروق طاقة نقل المعلومات ومدى سرعة نقلها عبر الشبكات، ومن ثم درجة غنى الرسائل التعليميَّة التي يمكن نقلها.

الوسائط التقنية الأكثر مناسبة للتعليم عن بُعد في البلدان النامية:

وبناء على المناقشة السابقة، يظهر أن الراديو والصوتيات بوجه عام، يليها التلفزيون، هي الوسائط الأكثر مناسبة للاستعمال الواسع، خاصة فى ميدان مقاومة الاستبعاد من التعليم، في البلدان النامية حاليا. فتمتازهذه التقنيات، من حيث المبدأ، بكونها واسعة الانتشار، ورخيصة نسبيا، ولا تحتاج بنية تحتية مكلفة. والواقع أن انتشار البث الإذاعي في البلدان النامية متسع جدا، لأسباب غير تعليميَّة، وفى الأغلب مترد نوعا، بما يؤسس حاجة إلىالاستخدام الفعَّال لهذه الوسائط في التعليم والتنوير.

ولكن ينتاب الإذاعة التعليميَّة، المسموعة والمرئيَّة، وجه قصور تعليمي أساسي هو غياب التفاعل المزدوج بين المُعلِّم والمُتعلِّم. ومع ذلك، يزيد من الأهمية التي يجب أن تولى لاستعمال الراديو وجود تقويمات حسنة، حتى في تعليم أوليات الرياضيات والعلوم، لما يسمى "تعليم الراديو التفاعلي" الذي يتضمَّن إشراك المُتعلِّمين عن بعد من خلال طلب قيامهم بنشاطات، فرديَّة أو جمعية، في أثناء البث الإذاعي، بدلا من مجرد الإنصات السلبي. ولا يوجد من حيث المبدأ ما يمنع من أن تمتد هذه الطريقة إلى البث التعليمي التلفزيوني. ولكن ذلك النوع من التواصل المنقوص لا يقوم بديلا فعَّالا، في كلتا الحالتين، للتفاعل الآني.

وفوق ذلك، فإن المزايا العامة التي ذكرنا أعلاه للإذاعة من حيث المبدأ لم تمنع أن تعاني برامج البث الإذاعي التعليمي في البلدان النامية، التي اهتمت بتقويمها، أوجه نقص عديدة منها نقص التمويل، وقلة المعدات ووقت الإذاعة المتاح، وضعف تدريب العاملين، وقلة اهتمام المسؤولين الذين يفضلون البرامج المدرة للربح وحتى المُعلِّمين. غير أن التوصية بالاهتمام بالإذاعة لا تعني، على الإطلاق، إهمال التقنيات الأكثر تطوُّرا، خاصة وهي تحمل الأمل الأكبر في مواجهة مشكلة تردي نوعيَّة التعليم التقليدي في البلدان النامية.

الحاجة إلى التعليم عن بُعد والتعليم مُتعدِّد القنوات:

بدايةً يمكن، بل مطلوب بشدة أن يساهم التعليم عن بُعد فى حل مشكلات الاستبعاد من التعليم التقليدى، سواء فيما يتصل بالتعليم قبل المدرسي بوجه عام، أو استبعاد البنات والنساء والمناطق النائية والفئات الفقيرة من مراحل التعليم الأعلى. ومن الممكن، بل صار ملحاً، أن تستغل أساليب التعليم عن بُعد فى مكافحة تردي النوعيَّة فى التعليم التقليدي من خلال التعليم مُتعدِّد القنوات. ومن المُميِّزات المعروفة لبعض أشكال التعليم عن بُعد هو انخفاض تكلفتها، الأمر الذي يساعد على استخدامها فى البلدان الأفقر.

ويمكن أن تساعد أساليب التعليم عن بُعد فى التغلُّب على ندرة المُعلِّمين، خاصة فى المناطق النائية والأفقر فيها، وتوفر أداة فعَّالة للنهوض بمستوى المُعلِّمين باستمرار، وتساهم فى توسيع نطاق الاستفادة من المُعلِّمين الموهوبين، سواء فى تعليم النشء أو فى تدريب عامة المُعلِّمين. غير أن لتبني التعليم عن بُعد، بكفاءة، ميزتين إضافيتين، على الصعيد الاجتماعي وفى المعترك الدولى. على الصعيد الاجتماعي، سيساعد تنامي "التعلم الذاتى عن بعد" بين أبناء القادرين على تفاقم الانتقائية المتزايدة للفئات الاجتماعيَّة الأغنى فى التعليم الأرقى نوعيَّة، بحيث يصبح التعليم أداة لتكريس الاستقطاب الاجتماعي، بدلا من وظيفته المرجوة فى التقليل من الفوارق الاجتماعيَّة.

وترتب هذه السمة أهمية خاصة لتوفير إمكان الاستفادة من ثمرات التقانات الحديثة لأبناء الفئات الاجتماعيَّة الأضعف. وقد صار لزاماً، خاصة مع انتشار الفقر، أن توفر نظم التعليم العربية العامة الأشكال الأحدث من تقانات التعلُّم الذاتي عن بعد لأبناء غير القادرين. وفى المعترك الدولي، تنطوي عمليَّة العولمة على أنماط، مباشرة وأخرى مقنّعة، من التعليم عن بُعد، من خارج نسق التعليم والتنشئة الوطنية، قوي ويزداد قوةً باطراد، ومحمّل بلغاتٍ وبثقافاتٍ غريبة بأوسع معنى بما قد يحمل أخطاراً على رسالة التعليم. ومن ثم بات ضروريا دخول معترك التعليم عن بُعد بوصفه مجالا حيويا للتعلُّم على صعيد العالم لم يعد ممكنا تجاهل وجوده.

ولأنّها تبدأ من الصفر تقريبا، تنهض فرصة لأن تُصمم نظم التعليم عن بُعد، منذ البداية، لتتلافى نقائص التعليم التقليدي، خاصة تلك التى ينعقد الأمل على التعليم عن بُعد فى المساهمة فى مكافحتها وعلى رأسها الآستبعاد بمختلف أنواعه التى ذكرنا أعلاه، وتردي النوعيَّة، والفصام مع مقتضيات التنميَّة والتقدُّم.

شروط نجاح التعليم عن بُعد والتعليم مُتعدِّد القنوات:

هناك قدر من الانبهار بالتعليم عن بُعد، وباستخدام التقنيات الأحدث، وكأنها حلول سحرية، دون تمحيص. هذا على حين يواجه التعليم عن بُعد، والتعليم مُتعدِّد القنوات بوجه خاص، مشكلات عديدة، تزداد حدة في البلدان النامية. والخشية من أن تؤدي حالة الانبهار هذه إلى إحباط ضخم، في ميدان التعليم. إذ ليس التعليم عن بُعد حلاً سحرياً، بل هو أحد عناصر منظومة تعليم متكاملة، وهكذا يجب أن ينظر إليه، وأن نقدم عليه بكونه تحدياً كبيراً، إن أردنا النجاح في هذا الميدان الحديث نسبياً.

فعلى حين يُقدِّم بعض الباحثين، في الغرب، قرائن على أن بعض برامج التعليم عن بُعد يمكن أن تنتج نوعيَّة أعلى من التعليم، خاصة التعليم العالي، بسبب ضرورة تحمل المُتعلِّم للمسؤولية، والاشتراك الأكثر فعاليَّة للمُتعلِّمين في العمليَّة التعليميَّة، وغياب الحواجز النفسانية للتعبير في المجموع، وغيره من المبررات، لا يوجد دليل علمي قاطع يرجّح أفضلية التعليم عن بُعد على التعليم التقليدي في منظور النوعيَّة.

وعلى العكس، يتوافر دليلٌ قوي على أن برامج التعليم عن بُعد تعاني معدلات انقطاع أعلى مما تُعانيه برامج التعليم التقليدي. وهذا أمر متوقع في ضوء الظروف القاسيةلغالبية الملتحقين بالتعليم عن بُعد، والتي أدت إلى حرمانهم من التعليم التقليدي بداية. والواقع أن التعليم عن بُعد يمكن أن يقع في مشاكل التحصيل نفسها في التعليم التقليدي، خاصة الثلاثية اللعينة "للتلقين والاستظهار والإرجاع". بل يمكن أن يعانيها أكثر من معاناتها في التعليم التقليدي بسبب توسط المعدات الجامدة بين المُعلِّم والمُتعلِّم. ولذلك يجب أن تكوّن مقاومة التسرب وضمان النوعيَّة الراقية محاور أساسيَّة في التخطيط للتعليم عن بُعد. والمعروف أن آثار التعليم عن بُعد أكثر تشتتاً من آثار التعليم التقليدي، ومن ثم فهي أصعب في التقويم. وتزداد هذه الصعوبة فى البلدان التى تضعف فيها فكرة التقويم، وتقل فيها مصداقية جهود التقويم.

وتطوير المواد التعليميَّة المشوقة والفعَّالة، في التعليم عن بُعد أمر صعب ومركب، لذلك يجب أن يتم من خلال فرق متكاملة تضم تربويين وخبراء، فى الموضوعات وفى التقنيات ووسائط الاتصال المُستخدَمة، والفنانين وغيرهم. ويجب أن يقوم إنتاج المواد التعليميَّة على تبني نموذج "البحث، التطوير والتقويم والمراجعة" باستمرار. وهو أيضاً أمر مكلف. ففي الولايات المتحدة، وعلى سبيل المثال، يقدر أن تكلفة إنتاج الدقيقة الواحدة من برامج التلفزيون التعليميَّة الجيدة تبلغ حوالي ثلاثة آلاف دولار. ولذلك كثيراً ما يتم التأكيد على أن الاستفادة من التعليم عن بُعد يجب أن تكون على قدر كبير من الاتساع والعمق بحيث تتحقق معادلة معقولة بين التكلفة والعائد. وتمثل ندرة المواد التعليميَّة الصالحة للتعليم عن بُعد باللغة العربية مشكلة خاصة يتعين العمل على تلافيها تمهيدا للدخول القوي فى هذا المضمار.

1. المنظومة البشريَّة:

تشترك فئات مُتنوِّعة، و"جديدة"، من البشر في التعليم عن بُعد، وتزداد عدداً وتنوعاً في التعليم مُتعدِّد القنوات. فبدلاً من مجرد "ثنائي" المُدرِّس والطالب يقوم التعليم عن بُعد في الحد الأدنى على "ثالوث": مُعلِّم عن بعد أو مُعلِّم في "الأستوديو" ومُتعلِّم عن بعد، ميسر الموقع (الذي يتعامل فيه المُتعلِّم عن بعد) بجوانب العمليَّة التعليميَّة عن بعد، خاصة من خلال وسائل الاتصال المُتقدِّمة غير المتاحة للمُتعلِّم الفرد.

ويتعين أن تتفاعل الأطراف الثلاثة كفريق كفؤ مع تغير دور المُعلِّم والمُتعلِّم عن المتعارف عليه في التعليم التقليدي. فالمُعلِّم عن بعد الكفؤ ليس ملقنا لكم معيناً من المعلومات، ولكنه ميسّرٌ للتعلُّم من خلال الاكتشاف، وعبر التواصل مطرد الترقي. لكن هناك آخرين كثراً غير هؤلاء الثلاثة  تضمهم فرق تصميم وإنتاج المادة التعليميَّة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، عدا الفنيين والإداريين في مواقع التعليم عن بُعد وفى الإدارة التعليميَّة على مستوياتها المختلفة، ومُقدِّمي خدمات الاتصال المختلفة، وغيرهم.

وهناك خطر يكمن في أن يقع التعليم عن بُعد في أيدي "التقانيين" نتيجة لقلة معرفة التربويين بالتقنيات الحديثة، أو افتتانهم الشديد بها. وينطوي ذلك على الوقوع في التركيز الزائد على التقنيات والمعدات، عوضا عن الهدف الأصيل وهو الاحتياجات التعليميَّة للمُتعلِّمين عن بعد. إنَّ التعرُّف على هذه الاحتياجات، وأفضل السبل للوفاء بها، يجب أن يسبق حتى اختيار التقنيات وتحديد التوظيف الأفضل لها لتحقيق الغاية التعليميَّة. ويستلزم هذا درأ ذلك الخطر، على وجه الخصوص، بأن يعاد توجيه برامج تكوين التربويين، الجامعيَّة وفي أثناء الخدمة، لتتضمَّن مُكوَّناً قوياً في التعليم عن بُعد، نظرياً وعملياً.

2. البنية الأساسيَّة والمعدات والبرمجيات:

واضحٌ أن تكلفة التعليم عن بُعد، خاصةً التفاعلي منها، مرتفعة إلى درجة يمكن أن تكون مانعة للانتشار، ولو كان محدوداً. إذ حتى في الولايات المتحدة الأمريكية تحول القيود الماليَّة أحياناً دون توافر المعدات والبرمجيات ومداخل شبكات الاتصال اللازمة لهذا النوع من التعليم عن بُعد.

ويزيد في التكلفة على المدى الطويل، التقادم السريع لكثرة المعدات والبرمجيات المستعملة في التعليمالتفاغلي عن بُعد. وخلاف التكلفة، هناك شروط عديدة للاستخدام الفعَّال للمعدات الحديثة من أهمها التدريب الفعَّال والصيانة المستمرة. ويترتب على قلَّة توافر هذه الشروط تضاؤل استخدام المعدات الحديثة إلى جانب طفيف من إمكانياتها. وقد يصل الأمر لبوار المعدات، وقلة الاستفادة من البرمجيات، تحت ظروف البيروقراطية والإهمال المتفشيين في الإدارة الحكوميَّة في البلدان العربية.

وعلى السياق التنظيمي والإداري يتوقف العائد على نظم التعليم عن بُعد والتعليم مُتعدِّد القنوات. إذ إنّ التعليم عن بُعد نسق أعقد من التعليم التقليدي، ومن ثم يحتاج إلى أنظمة أكفأ وإدارة أرقى.

وتزداد المشكلات التنظيميَّة والإداريَّة تعقيداً في إدارة التعليم مُتعدِّد القنوات. والمعروف أن الإدارة المدرسيَّة التقليديَّة تميل إلى المركزية والجمود، بينما يكمن نجاح التعليم عن بُعد في اللامركزية والمرونة اللازمين لتكامل عديد من المُكوَّنات المتباينة في نسق متكامل يسعى إلى بلوغ غاية مشتركة.

وعند تبني التعليم عن بُعد يصبح مطلوباً بوجه خاص مرونة القيادات التعليميَّة وهى في العادة أكثر جموداً وتمسكاً بالسلطة، واغتراباً عن التعليم عن بُعد ومحتواه التقاني، من الأجيال الأصغر في المُؤسَّسة التعليميَّة. ويستلزم ذلك الاهتمام بالتوعية المُكثَّفة بمضمون التعليم عن بُعد، والتدريب على إدارة مُكوَّناته العديدة، والتنسيق بينها، خاصة في مستويات الإدارة التعليميَّة المختلفة قبل بدء البرامج. وتتضمَّن الأمور التي تحتاج إلى عناية خاصة في مضمار التنظيم والإدارة، ومُتطلَّبات مختلفة عن التعليم التقليدي ومسائل "الاعتراف" بالمُؤسَّسات العاملة في ميدان التعليم عن بُعد، وتقويم المُتعلِّمين، وتقويم المُعلِّمين، والترخيص للمُعلِّمين وتجديده، وتدريبهم.

ويمثل السياق الاجتماعي للتعليم عن بُعد مُحدَّداً جوهريا لمدى نجاحه. وهنا تثور عدة مشكلات تطلب اعترافاً من ناحية، ومواجهة جادة من ناحية أخرى. وبداية يعاني التعليم عن بُعد من انخفاض المكانة الاجتماعيَّة، حيث يُعد تعليماً "من الدرجة الثانية"، يرتاده فقط من لم يقدر، أكاديمياً أو مالياً، على "امتلاك" أشكال التعليم التقليدي. وينبغي التخطيط لمحاربة هذه السمعة السيئة. وجليٌ أن السلاح الأمضى في هذه الحرب هو ضمان النوعيَّة المُتميِّزة في برامج التعليم عن بُعد، خاصة تلك البديلة منها للتعليم التقليدي. والسبيل الأساسي لذلك هو تطبيق نظم الاعتراف الأكاديمي الصارمة ببرامج التعليم عن بُعد. وتبين الخبرة العمليَّة أن أحد أهم سبل احترام التعليم عن بُعد هو اعتراف مُؤسَّسات التعليم التقليدي المُتميِّزة بخريجي برامجه بين طلبتها.

في الختام:

إنَّ الاستغلال الناجع للتعليم عن بُعد، والتعليم مُتعدِّد القنوات خاصة باستعمال تقنيات التفاعل الإلكترونيَّة يقتضي ثورة حقيقيَّة في التعليم كله. فكل المُكوَّنات التي سبق الإشارة إليها يتعين أن تتكامل في منظومة متناغمة داخلياً، وتلتئم في تناغم أيضاً مع نسق التعليم التقليدي القائم، الأمر الذي يوجب ضرورة التجريب واكتساب الخبرة التراكميَّة من خلال التقويم الرصين والتطوير المستمر.