التعليم خيار استراتيجي

إنّ أهمية التعليم مسألة لم تعد اليوم محل جدل في أي منطقة من العالم فالتجارب الدوليَّة المعاصرة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ بداية التقدُّم الحقيقيَّة بل والوحيدة هي التعليم وإنّ محل الدول التي تقدمت كان التعليم بوابة ذلك التقدُّم، وأنّ الدول المُتقدِّمة تضع التعليم على رأس أولويات برامجها وسياستها.



يمثل التعليم الاستراتيجيات القوميَّة الكبرى لدول العالم المُتقدِّم والناس على حدٍّ سواء نظراً لما لمسته تلك الدول من أدوار ملموسة للتعليم في العمليات التنمويَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة بل وإسهاماتها الحقيقيَّة في حقيقة أمن الشعوب واستقرارها ورفاهيتها وتقدمها.

فلقد أصبح التعليم ضرورة من ضرورات الحياة وليست رفاهية اجتماعيَّة وأصبح أساساً هاماً من الأسس الثقافيَّة والحضاريَّة في المجتمعات الحديثة وأصبح العصر الذي تعيش فيه وما يمتاز من تغيرات وأحداث وثورات ثقافيَّة مستمرة لا مكان فيه لأمّيٍّ يستطيع أن يتكيف وإيّاه ويساير مُتغيِّراته ومُتطلَّباته.

والواقع أنّنا نظرنا إلى مفهوم التنمية لوجدنا أن ذلك المفهوم هو تعبير معنوي يدل على العملية الديناميكية المُكوَّنة من سلسلة من التغيُّرات الوظيفية والبنائية اللازمة لبقاء الكائن الحي ونموه في بيئته وتطبيقاً لمفهوم تنمية الكائن الحي على المجتمع يمكن تفسير مصطلح التنمية كمدلول لإحداث سلسلة التغيُّرات الوظيفية والبنائية لنمو المجتمع وذلك بزيادة قدرة أفراده على استغلال الطاقات المتاحة للمجتمع إلى أقصى حد ممكن وبطريقة تحقق له أهدافه (1، ص 87).

ولقد أثبتت الدراسات المختصة تزايد دور عنصر العمل في العملية الإنتاجية من خلال زيادة الإنتاجية وفق مؤشرات مختلفة ومن بين أهم هذه المؤشرات التعليم والتدريب، حيث يُعَدُّ التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته ومراحله ركنا أساسياً من أركان تنمية الموارد البشريَّة فقد أثبتت الدراسات أن العامل الحاصل على شهادة عليا يفوق بمقدار (75%). قرينه والحاصل على شهادة الثانوية يفوق قرينه بمقدار (45%) والحاصل على شهادة أدنى من الثانوية يفوق قرينه بمقدار (25%) في إنتاجية العمل (2، ص 12).

بينما كشفت دراسات "شولتتر ودينسون" و"مارى بومان" و"بيكر" في الولايات المتحدة الأمريكية ما يفرز قيمة الاستثمار في البشر فقد وجد من نتائج إحدى تلك الدراسات أنّ (36%-70%) من الزيادة في الدخل القومي خلال الفترة من (1929-1957) تعود إلى تعليم العمال، كما أشارت دراسة أخرى إلى أنّ (50%) من الزيادة في الدخل القومي خلال السنوات (1911-1961) تعود إلى تحسين مستوى التعليم وعززت ذلك نتائج دراسة أخرى بأن التعليم ساهم بنسبة (42%) في زيادة الدخل القومي (230 ص 16).

وذلك من منطلق أن من أهم مستلزمات التنمية الاقتصاديَّة توافر القوى البشريَّة اللازمة لها بما تستلزمه من مهارات عقليَّة وعملية ثم إن الاتجاهات الحديثة في التنمية الاقتصاديَّة تعتمد على الزيادة في قدرة الفرد على التعامل والآلة من ناحية واكتساب الفرد الاتجاهات المناسبة والصحيحة نحو العمل وتقدير المسؤوليَّة والإحساس بالواجب من ناحية أخرى، كما تتطلَّب التنمية الاقتصاديَّة أيضاً توافر الاتجاهات الصحيحة نحو الاستثمار والادخار وتنظيم الاستهلاك وفى كل تلك الأمور نجد أن للمُؤسَّسات التعليميَّة دوراً هاماً في دعمها وتنميتها.

فإنّه بدون تربية لا تكون معرفة ولا كفاءة ولا روح العمل المنتج ولا تنظيم للطاقات البشريَّة ولهذا فإن كل دولة أحرزت تقدماً ملموساً أعطت التربية أولوية، من هذا يتأكَّد لنا أنّ التقدُّم المنشود يتطلَّب الاهتمام بالتعليم كيفاً وكماً، فالاعتماد على أحد عنصري التنمية الأساسيين رأس المال المادي أو رأس المال البشرى دون غيره، يؤثر في قدرة المجتمع على التنمية.

فالتعليم يتحمل مسؤوليَّة هائلة في تحقيق التنمية التي نرجوها التنمية الشاملة، التنمية بمعناها الواسع التي تشمل كل أنواع الحياة التنمية البشريَّة بكل ما تحتويه من اكتشاف ورعاية وتدعيم وتعظيم للقوى البشريَّة وللخبرات والقدرات التي يمتلكها الإنسان وتوجيهها بما يخدم هذا الإنسان نفسه وفى إطار المجتمع الذى يعيش فيه، كما تشمل التنمية كذلك التنمية الاقتصاديَّة والتنمية الاجتماعيَّة والتنمية الثقافيَّة وكل ما يدعم نواحي أنشطة الحياة الماديَّة والبشريَّة كافة وإذا نظرنا إلى التجارب الإنسانيَّة الناجمة التي تمت في العقود الماضية والتي حققت تقدماً ملموساً ومحسوباً في كافة هذه المجالات شرقاً وغرباً نجدها تمت بلا استثناء من بوابة التعليم.

وإذا نظرنا إلى الدول الكبرى التي تتصارع على القمة اليوم، نجدها تطور من نظم تعليمها باستمرار وتحاول أن تدرس نظم التعليم الأخرى الموجودة وتوجه معظم جهودها لتطوير التعليم.

ففي إنجلترا أكَّدت دراسة "جوردن كجنييها" أنّ تنمية الثروة البشريَّة عن طريق التعليم لها أكبر مردود اقتصادي وقد حظي على دراسة "مارجريت تاتشر" لأهمية المراجعة المستمرة لنظام التعليم في بريطانيا لكي يوائم التطوُّرات الحديثة في مجال التكنولوجيا.

كما أكد "توني بلير" رئيس وزراء بريطانيا على ضرورة الاهتمام بالتعليم فقد ظلّ طوال حملته الانتخابية يردد دائما تسألونني عن الأولوية في برنامج الحكومة إنّه التعليم وكرّرها ثلاث مرّات (40، ص 16).

وفى الولايات المتحدة الأمريكية حدثت ثورة تعليميَّة ومراجعة شاملة لنظام التعليم في عام (1957) وذلك عندما أطلقت روسيا أول قمر صناعي لها وفي عام (1983) أصدر الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان تقريره المشهور أمة في خطة ثم تابع "بوش" اهتمامه بالتعليم وكان برنامجه شعب من الطلاب ثم صدر أخيراً تقرير آخر لبوش الابن أمة مازالت في خطة من كل هذا نجد أنّ الولايات المتحدة تعطى اهتماماً متزايداً للعملية التعليميَّة أكثر من اهتمامها بالمصانع وغيرها.

وفى حديثه للتليفزيون الإسرائيلي أشار "شيمون بيريز" إلى تكوين الدولة اليهودية القوية بقوله "إذا كانت هناك دولٌ حولنا تكرس الدين الإسلامي وتملك الثروات الطبيعيَّة والبترولية فإنّنا نستطيع أن نحسم الصراع لصالح إسرائيل عن طريق التعليم وعن طريق الثروة البشريَّة المُدرَّبة والتي نملكها وإتاحة التعليم العالي والجامعي لكل فتى إسرائيلي وفتاه إسرائيلية وبما يتلاءم وتغيرات العصر (4، ص17).

وإذا كانت الأمّة العربية تتصدى للعديد من التحديات الدوليَّة والإقليميَّة والمحليَّة والتي تجعل من تطوير التعليم خياراً استراتيجياً لا بديل عنه، فالوطن العربي لا يعيش بمعزل عن باقي دول العالم، بل يعيش منفتحاً على العالم كله بماله من تراث ثقافي وحضاري يؤهله للانفتاح على ثقافات العالم والتكيُّف مع مُتغيِّراته، ولعل تطوير التعليم في الوطن العربي من حيث الشكل والمضمون يتخذ ملامحه الأساسيَّة من طبيعة التحديات الدوليَّة والمحليَّة التي يتصدى لها الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه.

ولكن المأساة التي تعيشها جملة البلاد العربية هي أنّها في الوقت الذي تمتلك فيه موارد اقتصاديَّة وإمكانات ماديَّة مذهلة وتراثاً حضارياً عريقاً، فضلاً عما يتوافر حولها من أسباب المدنيَّة الحديثة، فإن جمهرة أبنائها لا يقوون بمستوياتهم الثقافيَّة المنخفضة على استثمار هذه الموارد والإمكانات والتراث بما يدفعهم على طريق التقدُّم بالسرعة المطلوبة.

ولقد بدأت معظم الدول العربية في مراجعة نظامها التعليمي بما يتلاءم مع مُتغيِّرات العصر فلقد حدثت بعض الإصلاحات والتجديدات التعليميَّة في مصر والأردن وغيرهما من الدول العربية حتى تثبت للعالم كله أننا وطن له حضارة وله تاريخ وله عراقة وليس كما يقول "حاييم وايزمان" أنّنا نصرخ ولا نعض ولكننا سوف نثبته له أننا لا نصرخ ولا نعض بل نقطع الرقاب وسيفنا الذي سنستخدمه هو التعليم، يا ترى هل توقظ هذه المقولة أمتنا العربية من غفوتها التي طالت ومن فرقتها التي هانت وتجمع كلمتها تحت راية واحدة؟ أتمنى.

 

المصادر

  1. جلال مدبولي، المجتمعات الريفية المستحدثة تخطيطها وتنميتها، القاهرة: دار النهضة العربية، (1979).
  2. محمد متولي غنيمة، التربية والعمل: وحتمية تطوير سوق العمالة العربية، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، (1996).
  3. حسين كامل بهاء الدين، التعليم والمستقبل، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، (1999).
  4. Dave Altuinsonce، (The Economic Case Far Past - School Education)، INFOR، Development Agency، 1999

 

المصدر: مجلة المقالات