التعلم الاستجابي ( الاشراط الكلاسيكي Classical Conditioning )

ما هو الاشراط الكلاسيكي Classical Conditioning ؟



للتعرف على هذا النموذج, دعنا نتأمل الأمثلة التالية:

المثال الأول:

طفل رضيع أخذته أمه يوماً إلى عيادة أحد الأطباء, وهناك حقنه الطبيب بحقنه (مثير طبيعي ) آلمته, وكان الطبيب حينها يرتدي روباً أبيض (مثير محايد ). وفي يوم أخر أخذته أمه إلى صيدلية لشراء الدواء الذي وصفه له الطبيب. بمجرد رؤيته للصيدلي الذي يرتدي روباً أبيض بدأ الطفل بالصراخ. فالروب الأبيض استجر استجابة البكاء.

المثال الثاني:

في يوم ربيعي جميل اصطحب أحد الآباء طفله الرضيع في نزهة وهناك مدّ الطفل يده لتلمس زهرة البنفسج ( مثير محايد ) وتصادف في نفس اللحظة وجود نحلة عليها فلدغته ( مثير طبيعي ). في اليوم التالي عادت الأم من عملها وهي تحمل باقة من زهور البنفسج تناولت منها زهرة لتقديمها لطفلها ليشمها. فما أن وقع عليها حتى اندفع في صراخ عال مرعوباً من منظر تلك الزهرة. فمنظر الزهرة استجر استجابة الخوف من الألم التي تأدت بشكل طبيعي للدغة النخلة.

المثال الثالث:

في تجربة على الكلاب, لاحظ بافلوف أن الكلب يفرز اللعاب ( استجابة طبيعية ) عندما يقدم له الطعام ( مثير طبيعي ). في تطويره لهذا الموقف المخبري أضاف له صوت جرس ( مثير محايد ) قبل أن يقدم الطعام ( المثير الطبيعي ). كرر هذا الموقف. وبعد ذلك أراد أن يفحص أثر صوت الجرس ( مثير محايد ) على الكلب دون أن يقدم له الطعام فوجد أن الكلب يفرز اللعاب فور سماعه صوت الجرس.

من خلال هذه الأمثلة الثالثة يمكن استكشاف آلية الاشراط الكلاسيكي على النحو التالي: تقديم مثير محايد يليه مثير طبيعي وتكرار هذا التسلسل يجعل المثير المحايد قادراً على إستجرار الاستجابة الطبيعية التي كانت تتأدى للمثير الطبيعي فقط.

ويمكن تم تمثيل ذلك بالشكل التالي:

1. الطعام. إفراز اللعاب.

2. صوت الجرس. الطعام. إفراز اللعاب.

3. صوت الجرس. إفراز اللعاب.

حيث ترى نظرية المثير والاستجابة أن السلوك يتكون أساساً من المثيرات والاستجابات وأن التعلم هو عملية الربط بين المثيرات والاستجابات. بحيث إذا ظهر المثير الذي ارتبط باستجابة معينة مرة أخرى فان الاستجابة التي ارتبطت به سوف تظهر هي الأخرى.

 مثلاً يتعلم الطفل أن ينادي والدته بلفظ (ماما) كحدوث ارتباط بين هذا اللفظ وبين شكل الأم بحيث يصبح وجود الأم مثيراً لهذا اللفظ عند الطفل. وهكذا يتعلم الطفل اللغة عن طريق تكوين ارتباطات بين الألفاظ والأشياء التي ترمز لها هذه الألفاظ. ولا تقتصر النظريات الإرتباطية على مجرد تفسير تعلم الاستجابات اللفظية بل تتعداها إلى نطاق تعلم الانفعالات والأفكار المختلفة.  وترى هذه النظرية أن الارتباطات هي الوحدات الأساسية والأولية للسلوك وأن السلوك المتعلم ما هو إلا مجموعة أو تنظيم معين من الارتباطات.

وللنظرية الترابطية الجديدة بضعة اتجاهات تتعاون من حيث القيمة التي تطرح للعوامل المسؤولة عن إحداث عملية الربط. وهذه الاتجاهات تمثل في نظرية إيفان بافلوف   Ivan Pavlov (1849–1936 )  عن الفعل المنعكس الشرطي, والنظرية السلوكية القديمة والجديدة.

لم يقصد بافلوف Pavlov أن يبحث الاشراط الكلاسيكي, بل أن أبحاثه ركزت بداية على عملية الهضم عند الكلاب, وخلال هذه الأبحاث لاحظ ظاهرة مثيرة للاستطلاع والفضول. لقد لاحظ بافلوف Pavlov أن لعاب الكلب بدأ يسيل لرؤية الطعام أو شم رائحته وقبل أن يتذوقه فعلياً. وفي بعض التجارب فإن رؤية وعاء الطعام أو سماع صوت الشخص الذي يقدم الطعام كان يؤدي إلى سيلان الطعام .

طور في سياق دراسته لعمليات الهضم عند الكلاب إجراءات تجريبية, غدت معروفة بمصطلح " الاشراط الكلاسيكي " Classical Conditioning, وقد اتخذت هذه الإجراءات نمطاً نموذجياً, كانت الكلاب فيه موضوعه الرئيسي, وكان إفراز اللعاب, هو الاستجابة موضع الاهتمام .

يعتقد بافلوف Pavlov أن النشاطات النفسية المركبة نتاج للعلاقة بين العضوية والوسط وليست شيئا آخر غير ردود الأفعال المنعكسة الشرطية التي تجسد استجابة العضوية إزاء الوسط الذي توجد فيه والذي يمثل بدوره عاملا خارجيا فإلى جانب الأفعال المنعكسة الفطرية والتي تستند إلى أسس تشريحية بيولوجية توجد أفعال منعكسة مكتسبة  شرطيه تعبر عن الأشكال الأكثر تطورا للنشاطات الإنسانية .

وتجسدت فكرة بافلوف Pavlov هذه في اكتشافاته  الخاصة بالأفعال  المنعكسة الشرطية والتي كان لها أثر كبير في بناء نظريته الجديدة حول الحياة النفسية. لقد حاول في أعماله أن يجيب عن مسألته المركزية والتي تتمثل في طبيعة العلاقة بين الدماغ والنشاطات النفسية وهو يقول في هذا الصدد" ألا يمكن لنا أن نجد مظاهر نفسية أولية  يمكنها في الوقت نفسه أن تكون وعلى نحو كلي ظاهرة فيزيولوجية ".

وانطلاقا من ذلك كان بافلوف Pavlov  يتساءل عن إمكانية إجراء دراسة جادة ودقيقة تسعى إلى الكشف عن شروط وجود هذه الظاهرة في سياق مركباتها واختلاطاتها.

بدأت قصة الكشف عن الفعل المنعكس الشرطي عندما كان بافلوف Pavlov يجري أبحاثه الخاصة بالإفرازات اللعابية عند الكلب حيث لاحظ أن لعاب الكلب بدأ بالسيلان قبل وصول الطعام ( قطعة اللحم ) إلى فمه وأن لعاب الكلب يسيل لمجرد رؤية من يقدم له الطعام أو لدى سماع خطواته.

ومع أن هذه الملاحظة عادية وبسيطة إلا أن بافلوف Pavlov وجد فيها منطلقه للبحث في وظيفة الدماغ وهيأت له طريقة جديدة لتحليل العمليات الدماغية دون اللجوء إلى الطريقة المعهودة عند علماء الفيزيولوجيا الذين كانوا يلجؤون إلى جراحة الدماغ وإزالة بعض جوانبه من أجل إدراك وظائف الأجزاء المبتورة. ومن هذا المنطلق قيل أن عظمة بافلوف Pavlov تكمن في قدرته على اكتشاف أهمية ظاهرة تبدو بسيطة من حيث المظهر وأن هذه القدرة على التبصر العبقري مكنته من الوصول إلى تبصرات عبقرية جديدة في مجال فيزيولوجيا الدماغ نفسه.

نظرية بافلوف Pavlov في التعلم

إن أول رجل درس التعلم في ظروف تجريبية حسن ضبطها كان العلامة الروسي المشهور إيفان بافلوف Ivan Pavlov ( 1849 – 1936 )

حيث قام حوالي 1900م بدراسة عملية الهضم عند الكلب في المختبر وقام بقياس مقدار أو كمية اللعاب الذي يفرزه الكلب عند إطعامه، وفي أحد الأيام بينما كان يقترب من كلبه وبيده طبق الطعام لاحظ أن لعاب الكلب بدأ يسيل فأدرك أن مجرد رؤية الطعام تؤدي إلى إحداث الاستجابة التي تثار حين يلامس مسحوق اللحم ( الطعام ) لسان الكلب.

إن هذه المثيرات أصبحت وكأنها بالنسبة للكلب مؤشرات للطعام نفسه وتعلم الكلب أن تقديم هذه المثيرات سوف يتبع بتقديم الطعام. أدرك بافلوف Pavlov وبسرعة أهمية هذه الملاحظات وَحَوَّل اهتمامه في البحث في هذا الاتجاه.

 

وهكذا كرس بافلوف Pavlov جهوده العلمية اللاحقة لدراسة هذه الظاهرة وإظهار حقيقتها.

ونظرية بافلوف Pavlov تقوم أساساً على عملية الارتباط الشرطي التي مؤداها انه يمكن لأي مثير بيئي محايد أن يكتسب القدرة على التأثير في وظائف الجسم الطبيعية والنفسية إذا ما صوحب بمثير آخر من شأنه أن يثير فعلاً استجابة منعكسة طبيعية أو إشراطية أخرى. وقد تكون هذه المصاحبة عن عمد أو قد تقع من قبيل المصادفة.

ومن هذا المنطلق بدأ بافلوف Pavlov أبحاثه حول الدورة الدموية والبنية العصبية للجهاز الهضمي واستطاع عبر هذه الأبحاث والتحارب الفيزيولوجية حول التنظيم العصبي لجهاز الهضم أن يصل إلى اكتشافه العظيم حول الأفعال المنعكسة الشرطية ( Réflexes conditionnelles  ).

 لقد لاحظ بافلوف Pavlov في إطار تجاربه العلمية أن الفعل المنعكس الخاص بسيلان اللعاب لا يتم على أثر الاحتكاك المباشر بين الطعام والغدد اللعابية الفموية فحسب بل أن ذلك يتم أيضا تحت تأثير بعض الإشارات التي ترتبط عفويا بالمثيرات الطبيعية وذلك  مثل الأصوات التي تسبق وجبة الطعام . ويعطي بافلوف Pavlov للفعل المنعكس عن بعد وهي ردود الفعل الناجمة عن إشارات وأصوات تسمية الأفعال المنعكسة الشرطية  Réflexes conditionnelles) .

وتبين فيما بعد لبافلوف Pavlov أن الاستجابات  العصبية للفعل المنعكس الخاصة بسيلان اللعاب لا ترتبط بالعوامل الفيزيولوجية الخاصة فحسب ( وهذا يعني العوامل التي تقوم بعملية التحريض على نحو مباشر ) بل ترتبط  بعوامل نفسية أيضا.

وهو في هذا السياق يوظف مفهوم " اللعاب النفسي Sécrétion  Psychique))  و ذلك في إطار محاضراته حول إفرازات الغدد اللعابية والهضمية و ذلك في عام (1897 ).

ومن جهة أخرى وجد بافلوف Pavlov فرصته في اختبار العلاقة بين الظاهرة النفسية والظاهرة الفيزيولوجية, فسيلان اللعاب لمجرد رؤية من يقدم الطعام أو لمجرد سماع صوته ليس بظاهرة فيزيولوجية لأنه على المستوى الفيزيولوجي لا علاقة بين الطرفين وأن سيلان اللعاب مرهون على المستوى الفيزيولوجي بالاحتكاك بين الطعام وحليمات اللعاب في الفم. ومن هذا المنطلق أطلق بافلوف Pavlov على سيلان اللعاب المرتبط بالمشاهدة اصطلاح اللعاب النفسي  وهو يريد بذلك أن يشير إلى أن السلوك الحادث هو سلوك نفسي وليس فيزيولوجي وذلك لغياب العلاقة الموضوعية فيزيولوجيا بين المشاهدة وإفرازات اللعاب. وفي هذا المسار حاول بافلوف Pavlov أن يدرس العلاقة الجوهرية بين الظاهرة النفسية والظاهرة الفيزيولوجية عن طريق اكتشاف العلاقة بين المثيرات الخارجية ووظائف الدماغ العصبية العليا. لقد اعتقد بافلوف Pavlov أن حدوث الإفرازات النفسية تؤدي إلى بناء علاقات جديدة تسجل في لحاء المخ أو في القشرة الدماغية عند الحيوانات العليا. وهو بذلك كله يريد أن يبرهن بأن السلوك النفسي عند الإنسان يرتكز إلى أسس بيولوجية فيزيولوجية مركزها اللحاء المخي عند الإنسان أو الحيوانات العليا.

وعلى أثر هذه الملاحظات الخاصة بإفرازات اللعاب أجرى بافلوف Pavlov سلسلة متواصلة من التجارب على الكلاب من أجل التحديد العلمي لحركة هذه الظاهرة ورسم تجلياتها في صورة قوانين علمية واضحة قام على أثرها بتحديد المفاهيم الأساسية لنظريته هذه الخاصة بالتعزيز والانطفاء والتعميم والترابط والتعلم.

لقد أطلق بافلوف Pavlov على المثير الطبيعي للطعام اسم ( المثير غير الشرطي ) وعلى الاستجابة  الطبيعية (الاستجابة  غير الشرطية ),  ثم أطلق على  المثير الخارجي  (صوت الجرس ) المثير الشرطي وعلى الاستجابة  غير الطبيعية ( سيلان اللعاب لمجرد سماع صوت الجرس ) الاستجابة  الشرطية.

 تجربة بافلوف  Pavlov

قام بافلوف Pavlov بإجراء عملية جراحية بسيطة لكلب فتح بوساطتها ثقباً في خده وادخل فيه أنبوبة زجاجية تصل ما بين إحدى فتحات الغدة اللعابية وبين وعاء تتجمع فيه قطرات اللعاب التي يفرزها الكلب.

 

وبعد انتهاء هذه العملية قام بافلوف Pavlov بتقديم مثير صناعي (محايد) مثل صوت الجرس فلم تحدث أية استجابة نحو هذا المثير (لم تحدث استجابة إفراز اللعاب).

بعد ثوان قليلة من سماع صوت الجرس قدم له الطعام وسجل جهاز جمع اللعاب الكمية المسالة وبعد عدد من المزاوجات بين المثير الصناعي والطبيعي وجد بافلوف Pavlov أن المثير الشرطي أصبح وحده يستثير سيلان اللعاب في غياب المثير الطبيعي. وبعد ذلك أعاد بافلوف Pavlov هذه التجربة فلاحظ تكرر حدوثها.

إن هذه المثيرات أصبحت وكأنها بالنسبة للكب مؤشرات للطعام نفسه وتعلم الكلب أن تقديم هذه المثيرات سوف يتبع بتقديم الطعام.

ويمكن توضيح جوانب المسألة بالمثال التالي:

م1 مثير طبيعي ( قطعة اللحم ).استجابة طبيعية ( إفراز اللعاب )س 1

م2 مثير شرطي ( صوت الجرس ). استجابة طبيعية ( السماع) س 2

مثير طبيعي (قطعة اللحم ) + مثير شرطي( صوت الجرس ) + تكرار الارتباط. يؤدي إلى استجابة شرطية هي إفراز اللعاب.

وبطريقة أخرى  يمكن صياغة المعادلة التالية:

م1+م2 ومع التكرار  ـــــ س1+س2 وبالنتيجة م2ـــــــ س1.

ويبن المخطط  السابق أن المثير الذي كان حياديا ( رنين الجرس ) وبفعل الترابط يستطيع أن يلعب دور المثير الطبيعي الذي هو قطعة اللحم وأن يؤدي إلى استجابة شرطية هي سيلان اللعاب عند الكلب.

ويشير هذا المخطط إلى ثلاث مراحل, قبل التدريب, حيث يستجر المثير غير الشرطي استجابة غير شرطية, في حين لا يستجر المثير الحيادي مثل هذه الاستجابة, وأثناء التدريب, حيث يتم تقديم المثير الشرطي مع المثير غير الشرطي عدة مرات, وتصدر الاستجابة اللعابيّة, في كل مرة يقترن بها المثيران, وبعد التدريب, يتشكل الارتباط بين المثير الشرطي والاستجابة الشرطية نتيجة للتدريب الإشراطي.

تنطوي عملية الإشراط الكلاسيكي على ثلاثة مظاهر هامة, تمكننا في حال الوقوف عليها من فهم هذه العملية على نحو أفضل, وهذه المظاهر هي:

1. ضرورة مراعاة التسلسل الزمني لدى تقديم المثيرين الشرطي وغير الشرطي, إذ يجب تقديم المثير الشرطي أولاً, ثم تقديم المثير غير الشرطي, بغض النظر عن الاستجابات التي تؤديها العضوية, لأن تقديم المثير غير الشرطي, يتوقف على تقديم المثير الشرطي فقط , وليس على الاستجابات موضوع الإشراط, أي أن الإشراط يحدث نتيجة تقديم المثير غير الشرطي بعد المثير الشرطي.

2. يشكل المثير الشرطي في الإشراط الكلاسيكي حادثاً يمكن تحديده بسهولة ووضوح. أي لا يوجد غموض أو شكوك حول الحادث الذي يحدد المثير الشرطي.

3. إن الاستجابة الشرطية ( التي يستجرها المثير الشرطي ) مماثلة من حيث المظهر للاستجابة غير الشرطية ( التي يستجرها المثير غير الشرطي ), إلا أنها تختلف عنها في الكم, فكمية اللعاب التي يستجرها المثير غير الشرطي, كما أن الاستجابة الشرطية, تبدو أحياناً جزء من الاستجابة غير الشرطية, فقد يستجر مسحوق اللحم استجابات اللعاب والمضغ والبلع, في حين لا يستجر صوت الجرس إلا الإستجابة اللعابيّة فقط .

وقد فسر بافلوف Pavlov هذه الظاهرة بأن الكلب تعلم توقع تقديم الطعام وأن الجرس قد اكتسب القدرة على إسالة اللعاب وقد أطلق على هذا الاكتشاف الجديد اسم الفعل ( المنعكس الشرطي ).

إن الإجراءات التي استخدمها بسيطة نسبياً, فخلال المحاولات لتطوير هذه الاستجابات الشرطية فإن المثير المحايد والذي ليس من طبيعته أن يؤثر على سيلان اللعاب كصوت الجرس مثلاً كان يقدم ويتبع مباشرة بمثير ثانٍ من طبيعته أنه يؤدي إلى سيلان اللعاب وله في نفس الوقت تأثير قوي على سيلان اللعاب كمسحوق اللحم المجفف الذي يوضع مباشرة في فم الكلب.

إن مسحوق اللحم ( مثير طبيعي ) أو غير شرطي وذلك لقدرته على إحداث استجابة سيلان اللعاب بشكل تلقائي وطبيعي ولا يعتمد في ذلك على تعلم سابق لهذه الاستجابة. لذلك سميت الاستجابة ( سيلان اللعاب ) لمسحوق اللحم استجابة طبيعية لأنها لا تعتمد على التعلم السابق.

أما صوت الجرس فسمي بالمثير الشرطي لأن قدرته على توليد استجابة سيلان اللعاب تعتمد على اقترانه مع مسحوق اللحم والاستجابة لهذا المثير سميت بالاستجابة الشرطية.

لقد كان السؤال الأساس في ضوء هذه الملاحظات و التجارب:

هل يمكن لصوت الجرس ( مثير محايد ) أن يستجر تدرجياً استجابة سيلان اللعاب نتيجة لاقترانه المتكرر مع مسحوق اللحم ؟ هل يستجر الجرس هذه الاستجابة عندما يقدم وحده ؟

وكانت الإجابة على هذا السؤال, نعم, فبعد تكرار اقتران صوت الجرس ( مثير شرطي ) مع تقديم الطعام ( مثير طبيعي) فإن الكلب قدم الاستجابة لصوت الجرس عندما لم يتبع بتقديم الطعام.

ومع أن هذه التجربة تبدو يبدو وكأنها ساذجة أو تحصيل حاصل في معطياتها إلا أنها  تمثل على المستوى العلمي ابتكارا في غاية الأهمية والخطورة. لقد حاول بافلوف Pavlov ومن حذا حذوه أن يبرهن بأن منظومة سلوكنا وأفاعيلنا ومشاعرنا هي نتاج موضوعي للعلاقات الاستجابية الشرطية التي تضرب جذورها في عمق الجملة العصبية الدماغية عند الإنسان وهو بذلك يسعى إلى التأكيد على مقولة الوحدة الديالكتيكية  بين الوجود المادي والوجود النفسي عند الإنسان وأن الحياة النفسية هي ارتكاسات عصبية للعلاقة الموضوعية بين الدماغ والمثيرات الخارجية.

وترتب على بافلوف Pavlov أن يحدد منظومة مفاهيمه الخاصة بنظرية الارتكاسات الشرطية وخاصة هذه التي تتعلق بكيفية بناء الاستجابة  الشرطية وحدودها ومدى استمرارية هذه الاستجابات  في مدار الزمن وكيفية حدوث الانطفاء والتعزيز والتعميم ويجمل بنا في هذا السياق أن ننوه إلى بعض المحاور الخاصة بالمفاهيم المركزية لهذه النظرية.

 الإشراط الإيجابي والإشراط السلبي:

قد يكون الإشراط الكلاسيكي إيجابياً وقد يكون سلبياً, ويعود التمييز بين هذين النوعين من الإشراط إلى الآثار التي يحدثها المثير غير الشرطي. ففي الإشراط الإيجابي, يشكل المثير غير الشرطي حادثاً ساراً  أو مرغوباً فيه, كالطعام الذي يتلو صوت الجرس في تجارب بافلوف, والذي يؤدي إلى حالة الرضا, أما الإشراط السلبي, فهو على العكس من ذلك, بحيث يشكل المثير غير الشرطي فيه حادثاً منفراً أو غير مرغوب فيه, كالصدمة الكهربائية التي تؤدي إلى استجابة تجنبيّة كسحب القدم أو الامتناع عن الأكل.

يتواتر حدوث هذين النوعين من الإشراط في التعلم المدرسي على نحو كبير فابتسامة المعلمة ( وهي مثير غير شرطي ) تولد لدى طفل صغير إحساساً بالسعادة والسرور ( استجابة غير شرطية ), ونتيجة اقتران هذه الابتسامة بالمعلمة والمدرسة (مثيران حياديان أصلاً ), تغدو المعلمة والمدرسة, مثيرين شرطيين قادرين على استجرار استجابة الشعور بالسرور والسعادة, وبذلك يصبح الطفل أكثر إقبالاً عليهما. وعلى العكس, يمكن للمعلمة أن تكون مصدر إشراط سلبي, إذا كانت من النوع العقابي, فتستثير عند الطفل استجابة الخوف من المدرسة و الهروب منها.

و مما تجدر ملاحظته في هذا الصدد, هو أن المثيرات غير الشرطية السارة أو المرغوب فيها, لا تؤثر في عمليّة الإشراط, إلا إذا كانت كانت العضوية موضوع الإشراط في حالة دافعية معيّنة, إذ يصعب إشراط الاستجابة اللعابيّة عند الكلب, ما لم يكن جائعاً, أما المثيرات غير الشرطية المؤلمة أو غير المرغوب فيها, كالصدمة الكهربائية مثلاً, فإنها تزود العضوية بالدافعيّة المطلوبة, أي دافعية الهرب, لتجنب المثير المؤلم أو غير المرغوب فيه .

 العوامل المؤثرة في الإشراط الكلاسيكي:

 

أسفرت نتائج البحوث العديدة التي تناولت عملية الإشراط الكلاسيكي, عند وجود عدد من العوامل التي تؤثر في هذه العمليّة, ونتناول فيما يلي أهم هذه العوامل وهي: كمية التدريب, والفاصل الزمني بين المثير الشرطي والمثير غير الشرطي، وشدة المثير, والتعليمات .

أولاً: كمية التدريب:

تشير كمية التدريب إلى عدد مرات اقتران المثير الشرطي بالمثير غير الشرطي, و تعتبر هذه الكميّة أحد العوامل الرئيسة للإشراط الكلاسيكي.

يحدث الإشراط عادة عند ظهور الاستجابة في حضور المثير الشرطي وحده, وتنزع هذه الاستجابة إلى الظهور عبر عملية منتظمة تقريباً. فقد بيّنت معظم تجارب الإشراط الكلاسيكي, أن كمية اللعاب المستجرّة بالمثير الشرطي, تتزايد على نحو منتظم, نتيجة تزايد عدد مرات اقتران المثير الشرطي بالمثير غير الشرطي, وتبلغ هذه الكمية حدها الأقصى بعد ثلاثين اقتراناً تقريباً خلال أسبوعين, بحيث لا تؤدي الاقترانات التالية إلى أية زيادة في كمية اللعاب. لهذا يجب اقتران المثير الشرطي بالمثير غير الشرطي عدداً معيناً من المرات لإشراط الاستجابة المرغوب فيها.

 ثانياً: الفاصل الزمني بين تقديم المثير الشرطي وتقديم المثير غير الشرطي.

تلعب الفترة الزمنيّة الفاصلة بين تقديم المثير الشرطي وتقديم المثير غير الشرطي, دوراً هاماً جداً في حدوث الإشراط, وقد أفادت بعض الدراسات القديمة نسبياً أن الفترة الزمنية البالغة نصف ثانية, هي أفضل الفترات, بحيث تضعف فاعلية الإشراط في حال ازدياد أو نقصان هذه الفترة ( Spooner and Kellogg, 1947 ) غير أن دراسات أكثر حداثة, تناولت إشراط العديد من الاستجابات عند العديد من العضويات, كطرف العين أو سحب القدم أو ثني الساق... الخ أفادت أن فترة نصف الثانية, هي فترة مثلى في أوضاع تجريبية معينة, ويتوقف تحديد مثل هذه الفترة على نوع العضوية موضوع الإشراط، ونوعية الاستجابات المطلوب إشراطها, والإجراءات التجريبيّة المستخدمة في الإشراط, بحيث قد تبلغ هذه الفترة ثانيتين أحياناً  ( Noble and Adams, 1963 ) لذلك ينزع بعض الباحثين المعاصرين على الاعتقاد بعدم وجود فترة زمنية مثاليّة تنطبق على عمليات الإشراط كافة ( Hall, 1976 ).

 ثالثاً: شدة المثير:

تفيد نتائج بعض الدراسات التجريبيّة بوجود علاقة بين شدة المثير غير الشرطي وقوة الإشراط, بحيث يكون الإشراط أقوى, إذا بلغت شدة المثير غير الشرطي درجة معيّنة, فقد تبيّن أن نفخة الهواء القوية, ( مثير غير شرطي ) أكثر فعالية من النفخة الضعيفة من حيث إشراط استجابة طرف العين ( Beek,1963 ) أما بالنسبة للمثير الشرطي, فلم تظهر الدراسات وجود علاقة منتظمة بين شدة وفعالية الإشراط, إلا أن نتائج بعض الدراسات توحي بوجود أثر لشدة المثير الشرطي في قوة الإشراط, فالجرس ذو الصوت المرتفع, قد يسهل في بعض الإجراءات التجريبّية عملية الإشراط.

( Beek,1963; Grice and Hunter, 1964 )

رابعاً: دور التعليمات في الإشراط الكلاسيكي:

تشير نتائج بعض الدراسات إلى أن الكائنات البشرية التي تتعرض لعمليات الإشراط الكلاسيكي, قد تغير مستوى أدائها في حال إصدار تعليمات لفظية إليها. فقد تبين مثلاً, أن مستوى أداء الأفراد الذين يتلقون تعليمات لفظيّة قبل عملية الإشراط, بعدم طرف جفن العين قبل الشعور بالصدمة الهوائية, كان أقل من مستوى أداء الأفراد الذين لم يتلقوا مثل هذه التعليمات  ( Nickollas and Kimble, 1964 ) وقد يؤكد ذلك أهمية بعض العوامل المعرفيّة في الإشراط, كفهم أو تصور الفرد موضوع الإشراط للوضع التجريبي, ولما يجري حوله من أحداث, رغبة منه في التمكن من هذه الأحداث ومن الوضع المحيط به.

 الاشراط الكلاسيكي: مفاهيم أساسية

الاكتساب:

في معظم الحالات فإن الاشراط الكلاسيكي عملية تدريجية يكتسب من خلالها المثير الشرطي القدرة على استجرار الاستجابة الشرطية كنتيجة للاقتران المتكرر مع المثير غير الشرطي ( الطبيعي ) وتشير التجارب للعامل الأول وهو أنه كلما زاد عدد مرات الاقتران كان الاكتساب أسرع.

العامل الثاني الذي يؤثر في عملية الاكتساب يتعلق بالترتيب الزمني Temporal Arrange – ment لاقتران المثير الشرطي مع غير الشرطي.

ويمكن أن نميز هنا بين الأنواع الأربعة التالية:

1- الاشراط المؤجل Delayed Conditioning:

حيث يتم تقديم المثير غير الشرطي أثناء ظهور المثير الشرطي الذي سبق أن قدم أولاً.

2- الاشراط المتعاقب  Trace Conditioning:

يقدم المثير الشرطي أولاً وبعد ذلك المثير غير الشرطي دون حدوث تداخل بين تقديم المثيرين.

3- الاشراط المتوافق Simultaneous Conditioning:

في هذه الحالة يقدم المثير الشرطي والمثير غير الشرطي في نفس الوقت حيث أنهما يبدأن معاً ويختفيان معاً.

4- الاشراط الرجعي Backward Conditioning:

حيث يقدم المثير غير الشرطي أولاً وبعدها يقدم المثير الشرطي.

تشير التجارب إلى أن النوع الأول الاشراط المؤجل هو أكثر الطرق فعالية لتكوين الاستجابة الشرطية ذلك لان المثير الشرطي في هذه الحالة يعمل كمتنبئ قوي لظهور ( المثير الطبيعي ) غير الشرطي لاحقاً.

العامل الثالث هو الشدة التي يقدم بها المثير الطبيعي والمثير الشرطي. وبشكل عام فإن الاستجابة الشرطية تكتسب بشكل أسرع إذا زادت شدة المثير الطبيعي أو الشرطي. لكن يجب أن نلاحظ أن العامل الهام هنا لا يتعلق بالشدة المطلقة للمثير ولكن الأمر يتعلق بالشدة النسبية أو بعبارة أخرى درجة تباين واختلاف المثير عن مثيرات أخرى متنوعة موجودة في البيئة المحيطة.

العامل الرابع يتعلق بالفترة الزمنية مابين تقديم المثير الشرطي والمثير غير الشرطي. إن الفترة الزمنية القصيرة جداً (أقل من 0,2 ثانية ) نادراً ما تؤدي إلى تكوين استجابة شرطية في التجارب التي أجريت على الحيوانات فأن الفترة الزمنية المناسبة تراوحت ما بين ( 2 – 0,2 ) ثانية حيث أن الفترات الأطول تؤدي إلى صعوبة تمييز الحيوان للمثير الشرطي كمؤشر للأحداث أو المثيرات اللاحقة.

التعميم Generalization و التمييز Discrimination:

التعميم –في الاشراط الكلاسيكي – هو ميل المثير الجديد المشابه للمثير الشرطي الأصلي لاستجرار نفس الاستجابة الشرطية إذا ما اقترن به.

الشكل التالي يوضح التعميم:

·         الطعام. إفراز اللعاب ( استجابة طبيعية ).

·         صوت الجرس. الطعام. إفراز اللعاب ( استجابة شرطية ).

·         صوت الجرس. إفراز اللعاب ( استجابة شرطية ).

·         صوت صافرة. صوت الجرس. إفراز اللعاب ( استجابة شرطية ).

·         صوت صافرة. إفراز اللعاب ( استجابة شرطية ).

 

وبالإمكان سلسلة مثيرة قريبة من صوت الجرس أو مرافقة له كصوت المجرب أو الروب الذي يلبسه. ويبدو أن التعميم فيه بعض الفوائد حيث أنه يمنع الكائن الحي من تعلم الاستجابة لمثير واحد بعينه. مثال تعلم قيادة السيارة يعمم على جميع أنواع السيارات. وبالمقابل هناك وجه سلبي للتعميم. فمن غير المعقول أن يعمم الطفل خوفه من النحلة إلى الصرصور إلى الناموس... الخ, بحيث تكثر المثيرات المخيفة المشابهة للمثير الشرطي الأول. من هنا جاء مفهوم التمييز والذي يعني عملية تعلم الاستجابة لمثير بعينه دون المثيرات الأخرى.

من الأمثلة على التعميم تعلم نظرية هندسية ثم استخدامها لحل الكثير من الأسئلة ذات العلاقة. واستنباط نفس النتائج من تطبيق قاعدة عامة على مواقف ظرفية. فقاعدة " إنسان فان " تطبيق على جميع البشر, أما من الأمثلة على التمييز الامتحانات الموضوعية حيث يطلب من المفحوص اختيار الإجابة الأنسب أو الإجابة الصحيحة من بين أربعة احتمالات مثلاً.

 التعزيز Reinforcement:

لقد بينا في ما سبق أن بناء الاستجابة  الشرطية مرهون بعدد من فعاليات الارتباط بين مثيرين والصورة العلمية التي يقدمها بافلوف Pavlov عبر تجاربه تأخذ المخطط التالي الذي يبين الصورة الإشراطية للعلاقة بين صوت الجرس مقترنا بتقديم الطعام وعدد نقاط اللعاب عند الكلب ويطلق على هذه العملية عملية التعزيز Reinforcement:

تعزيز الاستجابة  الشرطية:

عدد نقاط اللعاب في ثلاثين ثانية تقديم الصوت والطعام:

0          1

18         9

30         15

65         31

64         41

69         51

 

يبين المخطط السابق أن عملية اقترن المثيرين قد تمت بصورة أكيدة خلال 51 مرة من مرات تقديم الطعام.

الانطفاء ( المحو ) Extinction

ولكن هذه العملية التعزيزية يقابلها ما يسمى بعملية الانطفاء ( المحو ) Extinction. ويقصد بالمحو التدريجي إضعاف الاستجابة الشرطية بتغيب المثير غير الشرطي ( الطبيعي ) ليصبح المثير الشرطي أضعف من أن سيتجر الاستجابة الطبيعية.

ويشير هذا المفهوم إلى اضمحلال وتلاشي الاستجابة  الشرطية حين تتوقف عملية التعزيز السابقة بصورة مستمرة, ويعني ذلك أن المثير الشرطي يجب أن يعزز دائما أو بصورة متقطعة ليحافظ على فعاليته في إحداث الإرتكاس أو الاستجابة  الشرطية.

وعكس المحو ( الانطفاء ) عملية " الاستعادة التدريجية " بها يمكن استعادة الاستجابة الشرطية دونما حاجة لتقديم المثير الطبيعي. فصوت الجرس يكفي لتتأدى استجابة إفراز اللعاب.

وفيما يلي مخطط الانطفاء التجريبي الذي رسمه بافلوف Pavlov خلال تجاربه المستمرة.

وقوام هذه التجربة تعريض الكلب لرنين الجرس دون تقديم الطعام له:

  الانطفاء ( المحو )  Extinction

نقاط اللعاب         الزمن بالثانية      رقم التجربة

13         12,7      1

7          12,10    2

5          12.13    3

6          12,16    4

3          12.19    5

2,5       12,22    6

-           12,25    7

-           12,27    8

 

يظهر المخطط السابق أن تناقص نقاط اللعاب بتزايد رقم التجربة حتى يصل إلى الصفر وهي حالة الانطفاء  الكاملة التي ينوه بافلوف Pavlov إلى وجودها.

ومع ذلك فإن بافلوف Pavlov يشير إلى نوعين من الانطفاء وهما:

1. الانطفاء الداخلي: الناجم عن غياب تقديم الطعام كما هو مبين في التجربة.

2. انطفاء خارجي: ويعود إلى شروط خارجية مثل سماع أصوات غريبة أثناء التجربة وبشكل مفاجئ.

إذن يحدد بافلوف Pavlov الشروط الأساسية لظهور ما يطلق عليه الاستجابة  الشرطية وعلى خلاف الاستجابة  الطبيعية ترتبط  هذه بعملية ارتباط بين مثير طبيعي ومثير حيادي.

على سبيل المثال عندما يرتبط تقدم الطعام برنة جرس فإن رنين الجرس يستطيع بمفرده أن يؤدي إلى سيلان لعاب الحيوان ولكن إذا حدث أن رنين الجرس لا يترافق مع تقدم الطعام فإن قدرة الجرس على الإثارة تنخفض تدريجيا إلى حد الزوال.

ولاحظ بافلوف Pavlov في هذا السياق أنه عندما يتم إثارة اللعاب وفقا لصوت جرس معين فإن الأصوات المقاربة للذبذبة الصوتية المعينة يمكنها أن تؤدي إلى النتيجة نفسها وهذا ما يطلق عليه بافلوف Pavlov  مفهوم التعميم  " Généralisation ".

ويبحث بافلوف Pavlov عن صيغة متكاملة للمثيرات وذلك من أجل الإشارة إلى عملية تحول طاقة ردود الفعل من مثير إلى آخر ومن ثم عمل فيما بعد  على تحليل هذه المثيرات من أجل اكتشاف الفروق القائمة بينها.

وقد قدر لبافلوف Pavlov ومعاونيه دراسة المظاهر الأساسية للفعل المنعكس الشرطي وذلك من خلال الاستجابات  اللعابية عند الكلاب وبينت أبحاثهم اللاحقة أن هذه النتائج تنسحب على عدد آخر من الاستجابات .

ولكي يتكون الفعل المنعكس الشرطي لابد أن تتوافر له العوامل التالية:

1. العلاقة الزمنية بين المثيرين: إن حدوث التعلم الشرطي يتطلب أن يتلو المثير الشرطي المثير غير الشرطي بفاصل زمني قصير لكي يحدث الاقتران بينهما وقد حدد هذا الفاصل في بعض الدراسات بضعة ثواني وأحياناً بأجزاء من الثانية.

2. تكرر الاقتران أو التصاحب بين المثيرين: لكي تتكون العلاقة الشرطية بين المثير الصناعي أو الحيادي ( الجرس في تجربة بافلوف Pavlov ) وبين المثير الشرطي (الطعام ) لابد أن يتكرر هذا الاقتران وبنفس الترتيب مرات عديدة علماً بأنه تبين أن حدوث هذا الاقتران مرة واحدة وفي ظروف معينة يؤدي إلى تعلم الربط بينهما لكن الدارسين يرون ضرورة التكرار لضمان تكون هذه العلاقة.

3. سيادة الاستجابة: لكي يكتسب المثير الشرطي خاصته الجديدة من حيث قدرته على إحداث استجابة ما من خلال اقترانه بالمثير الطبيعي لابد أن تكون العلاقة بين المثير الطبيعي والاستجابة غير الشرطية علاقة فطرية أو انعكاسية وذات سيادة.

4. استبعاد المثيرات الأخرى المشتتة للانتباه: إن نجاح التعلم الشرطي يتوقف على قلة العوامل المشتتة للانتباه في موقف التعلم, إذ كلما زاد عدد هذه العوامل كلما تطلب الأمر القيام بعدد اكبر من المحاولات.

5. التعزيز: إن العامل الحاسم في التعلم الشرطي هو التعزيز فلكي يصبح الجرس قادراً على استدعاء إفراز اللعاب لابد من أن يقدم الطعام للكلب اثر سماعه لصوت الجرس.

خصائص الفعل المنعكس الشرطي:

1. انه فعل مكتسب ومتعلم: خلافاً للفعل المنعكس ذي الطبيعة الوراثية الفطرية فإن الفعل المنعكس الشرطي فعل مكتسب ومتعلم.

2. انه فعل قابل للتغيير والتعديل: حيث إن الفعل المنعكس الشرطي فعل قابل للتغيير والتعديل قوة وضعفاً ويتأثر بالشروط التي أحاطت بالكائن أثناء تكوينه.

3. لا يتطلب تكوينه وجود مستقبل معين: حيث لا يتطلب تكوين الفعل المنعكس الشرطي وجود مستقبل معين متخصص في استقبال منبهاته لأنه يستخدم الزمن كمثير شرطي لإفراز اللعاب عند الكلب.

4. قابلية للانطفاء والانمحاء: الفعل المنعكس الشرطي لديه قابلية للانطفاء والانمحاء إذ يمكن انمحاء الفعل المنعكس الشرطي بعد تكوينه ورسوخه أحيانا وذلك بإتباع طريقة معاكسة لتكوينه فإذا تكرر قرع الجرس مرات عديدة دون أن يعقب ذلك تقديم الطعام فان الجرس يتوقف عن القيام بوظيفته الجديدة التي اكتسبها من جراء اقترانه بتقديم الطعام.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الانطفاء في الغالب لا يكون كلياً والى الأبد وإنما يلاحظ بعد فك الارتباط التجريبي بين المثير غير الشرطي والشرطي إعادة ظهور هذا الارتباط فيما بعد وهذا ما أطلق عليه اسم الاسترجاع التلقائي للفعل المنعكس الشرطي بعد انمحائه.

5. الفعل المنعكس الشرطي متعدد المستويات: بعد أن يتم تكوين الإشراط فان الاستجابة الشرطية يمكن إحداثها عن طريق المثير الشرطي وحده. فإذا تم إقران هذا المثير بمثير آخر لم يسبق له أن اقترن مع المثير غير الشرطي, فانه بعد عدد من المرات يصبح بمقدور المثير الجديد إحداث الاستجابة الشرطية وقد سمى بافلوف Pavlov هذا النوع من الإشراط بالإشراط من مستوى أعلى.

مثال ذلك أنه بعد أن يكتسب الجرس خاصية إفراز اللعاب لدى الكلب يمكن أن نقرن الجرس بمثير غير شرطي آخر كإضاءة مصباح أحمر أو أخضر أمام الكلب وبعد أن نكرر ذلك مرات عديدة بشكل التالي, نقرع الجرس، نضيء المصباح ثم نقدم الطعام حتى يصبح المصباح نفسه قادراً على إسالة لعاب الكلب.

عن هذا النوع من الإشراط المتعدد المستويات يلاحظ بوضوح عند ترويض الحيوانات كما في السيرك وغيرها من المواقف.

 

وبهذا الصدد تجب الإشارة إلى أن أعلى درجات أو مستويات الفعل المنعكس محدودة عند الحيوان لكنها كثيرة لدى الإنسان.

قوانين الاشراط عند بافلوف:

اكتشف بافلوف Pavlov في سياق أبحاثه التي أجراها على التعلم الشرطي عدداً من القوانين التي تفسر العلاقة بين المثيرات الشرطية وغير الشرطية وفيما يلي موجز عن كل منها:

1. قانون الاستثارة: ويتضمن هذا القانون التعبير عن حدوث الإشراط في حال تمت المزاوجة بين المثير الشرطي وغير الشرطي مما يؤدي إلى أن يكتسب المثير الشرطي خواص المثير اللاشرطي ويقوم مقامه.

2. قانون الكف الداخلي: إذا تكرر ظهور المثير الشرطي لفترة من الزمن دون تعزيز بالمثير الطبيعي فان الفعل المنعكس الشرطي يضعف ويضمحل تدريجياً وفي النهاية ينطفئ أي لا تظهر الاستجابة الشرطية فإذا تكرر قرع الجرس دون تقديم الطعام فان كمية اللعاب تأخذ بالنقصان شيئاً فشيئاً حتى تتوقف تماماً.

3. قانون التعزيز: إن التعزيز شرط لابد منه لتكوين الفعل المنعكس الشرطي ويقصد بذلك تتابع الموقف على نحو يكون فيها التعزيز هو الخيط الذي يوحد عناصر الموقف ويجعل منها كتلة سلوكية ترابطية.

4. قانون التعميم: ويعني هذا القانون أنه حينما يتم إشراط الاستجابة لمثير معين فان المثيرات الأخرى المشابهة للمثير الأصلي تصبح قادرة على استدعاء نفس الاستجابة.

بعد أن يتعلم الكلب الاستجابة لقرع الجرس بإفراز اللعاب فانه يستجيب بعد ذلك بإفراز اللعاب عند سماعه لأصوات مشابهة لصوت الجرس.

وهذه الظاهرة ظاهرة التعميم تلاحظ كثيراً في سلوك الحيوان والإنسان. فالطفل الذي يخاف نوعاً من الحيوانات يستجيب بالخوف لحيوانات مشابهة لهذا النوع.

5. قانون التمييز: وهو قانون مكمل لقانون التعميم فإذا كان التعميم استجابة للتشابه بين المثيرات فان التمييز استجابة للاختلاف بينها بمعنى أن الكائن الحي يستطيع في هذه العملية أن يميز بين المثيرات الموجودة في الموقف بشكل لا يصدر الاستجابة إلا للمثير المفرز وبالتالي لا تبقى إلا الاستجابة المفرزة بينما تنطفئ الاستجابات الأخرى غير المفرزة.

وتعد عملية التمييز متأخرة أو تالية لعملية التعميم حيث لا يستطيع الطفل على سبيل المثال القيام بعملية التمييز بدقة بين المثيرات إلا في مرحلة متقدمة من النمو. فبعد أن كان الطفل يخاف من جميع الحيوانات المشابهة للحيوان الذي كون لديه استجابة الخوف يبدأ في إصدار استجابات الخوف على نفس الحيوان فقط.

 الاستجابات  الشرطية والسلوك الإنساني:

ينظر بافلوف Pavlov إلى الظاهرة النفسية وما يترتب عليها من أنماط سلوكية بوصفها أفعال منعكسة وأفعال منعكسة شرطية محددة بزمان ومكان معينين.

ويعتقد بافلوف Pavlov أن الإنسان نظام محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل ظواهر الطبيعة  ويرى أن النظام الإنساني هو الوحيد بين الأنظمة الطبيعية الذي يتميز بقدرته الهائلة على التنظيم الذاتي والذي يمتلك المرونة الفائقة لهذه الفعالية. فالإنسان بأنظمته المعقدة خلاصة تطور الطبيعة في صورتها الأكثر رقيا وتقدما. فالسلوك الإنساني صناعة تتم وفقا لمبدأ الاستجابات  الشرطية وهي صناعة ممكنة  أي أنه يمكن لنا التحكم في سلوك الإنسان وتشريطه وتصنيعه مخبريا أو بصورة اجتماعية عندما يتم التحكم بشروط الحياة الاجتماعية. فأفكارنا ومفاهيمنا وتصوراتنا وقيمنا وعاداتنا وأنماط سلوكنا وكل جوانب نشاطاتنا النفسية والاجتماعية هي نتاج لعملية تشريط اجتماعية تربوية بعيدة المدى وأنه يمكن رسم حدود هذه النشاطات والتحكم فيها وفقا لمبدأ الإشراط ومبدأ الارتكاسات الشرطية التي بين أسرار حركتها في مخابره وتجاربه الطويلة.

لقد بين بافلوف Pavlov أنه يمكن للتشريط الارتكاسي إيقاع الناس فريسة الأمراض النفسية وأنه وعلى خلاف ذلك يمكن لهذا التشريط نفسه أن يؤدي وظيفة تحرير الناس من آلامهم وعقدهم وأمراضهم النفسية.

فالإنسان ينطلق في عملية تكيفه وفق منظومة دلالية من الرموز والمثيرات اللغوية التي تجعله في حركة استجابات شرطية تتصف بالاستمرار والديمومة. فالكلام يشكل بالنسبة للإنسان نظاما ثابتا من الدلالات الذي يتمايز به الإنسان عن الحيوان فالكلام هو بالتأكيد الأمر الذي جعل منا بشرا. فالمثيرات الأولى هي المثيرات الصادرة عن العالم الخارجي مثل الأصوات والروائح ومثيرات اللمس والضوء والأحداث الخارجية هي مثيرات مشتركة بين الإنسان والحيوان ولكن الإنسان يتفرد فيما يطلق عليه بافلوف Pavlov بالمثيرات الدلالية من المستوى الثاني والتي تتعلق بالرموز واللغة والكلمات والمعاني وهي الرموز أو الدلالات التي يتفرد بها عالم الإنسان عن عالم الحيوان.

 المنعكسات الشرطية ووظائف الدماغ العصبية العليا:

وكان هدف بافلوف Pavlov الأساسي عبر دراساته حول الفعل المنعكس الشرطي أن يصل إلى تحديد موضعي للنشاطات العصبية العليا عند الكائن الحي. فالمثير يمكنه أن يطلق عنان عمليات الإثارة أو الكبح وذلك في مستوى القشرة الدماغية ويمكن لذلك أن ينتشر ليعم المناطق الدماغية المجاورة.. وفي كلتا الحالتين تنمو عملية إثارة بدرجة كثافة مختلفة وذلك وفقا لنوعية المثير الحيادي أو الطبيعي. فالترابط المؤقت الذي يجمع بين مثير طبيعي ومثير شرطي يمثل ترابطا بين مثيرات وليس بين مثير واستجابة كما يعتقد أنصار السلوكية الأمريكية.

يميز بافلوف Pavlov بين الفعل المنعكس والفعل المنعكس الشرطي بصورة فيزيولوجية تتعلق بموقع الاستثارة لكل منهما في الدماغ. فالعمليات الخاصة بالفعل المنعكس الشرطي تجري في مجال القشرة الدماغية عند الإنسان وعلى خلاف ذلك فإن الفعل المنعكس (الطبيعي) يجري في المناطق الداخلية للدماغ ( مناطق تحت اللحاء ). وبناء على هذه الصورة فإن الفعل المنعكس يكون فطريا وراثيا أما الفعل المنعكس الشرطي فيأخذ صورة الفعل الثقافي المكتسب والذي لا يخرج في نهاية الأمر عن مقدماته وشروطه الفيزيولوجية.

ويربط بافلوف Pavlov بين النماذج العصابية واكتشافاته الخاصة بالأفعال المنعكسة الشرطية التي أتاحت له اكتشاف ما يسمى بالعصاب التجريبي "Nervose Expérimentale   " وهو عصاب يحدث عندما يتعرض الحيوان المجرب علية لعمليات إثارة وكبح في آن واحد يقع  على أثرها الحيوان فريسة الإثارة البالغة وذلك لأنه  لا يستطيع التمييز بين المثيرات القادمة المتنافرة وتكون النتيجة إصابة الحيوان المعني بالعصاب.

كان لاكتشاف بافلوف Pavlov الكبير  الخاص بالفعل المنعكس الشرطي أن يدفع الأبحاث النظرية والتجريبية حول التعلم  حيث سادت  موضة هذه الأبحاث في النصف الأول من القرن العشرين، وفي الواقع شكل مفهوم الأفعال المنعكسة الشرطية مهاد تطور كبير ذو طابع تجريبي لمفهوم الترابط الذي كان أخذ منحى ذهنيا. وغني عن البيان أيضا أن بافلوف Pavlov قد بذل أكثر من أي مفكر آخر جهودا كثيرة من أجل تطوير علم النفس العلمي وذلك عندما يبين لنا إلى أي حد يمكن للتحليل الموضوعي أن يؤدي إلى نتائج مختلفة عن هذه التي تؤدي إليها التأملات النظرية فحسب.

الجوانب السيكولوجية الفلسفية  لنظرية بافلوف:

حاول بافلوف Pavlov في سياق جهوده العلمية الكبيرة وفي مسار ابتكاراته أن يعزز بعض المنطلقات الأساسية للاتجاهات الفلسفية المادية وأن ينتصر بما قدمه من نتائج علمية بارعة لتيارات علم النفس التجريبي والفيزيولوجي الذي طرح نفسه بوصفه الاتجاه الوحيد القادر على تفسير الظاهر النفسية تفسيرا علميا بعيدا عن خرافات علم النفس التأملي وأساطيره التي تحلق فوق الواقع الموضوعي للظاهرة النفسية وتضفي إليه مالا ينطوي عليه.

وغني عن البيان أن نظرية بافلوف Pavlov  تنطوي على رؤية فلسفية طموحة وأصيله في جوانبه العلمية وهذه الرؤية تعزز في الوقت نفسه اتجاهات السيكولوجيا النزاعة إلى الارتقاء في صورته العلمية.

فالنظرية البافلوفية تنشد المبادئ التالية:

1. العمليات النفسية صورة لفعالية الدماغ ووظيفة من وظائفه الأساسية والدماغ هو أعلى أشكال المادة وأرقاها.

 وينبني على هذه المسلمة أنه لا يمكن أبدا إدراك العمليات النفسية بصورة علمية على الأقل بعيدا عن إدراك العمليات التي تتأصل في البنية الدماغية: فالفعل السيكولوجي فعل يتأصل ويحفر مجاريه في لحاء المخ وقشرة الدماغ الموطن الحقيقي لارتباطات مشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا.

2. الشعور انعكاس للمادة وصورة من صور العالم الموضوعي الخارجي والعمليات النفسية برمتها مرهونة باشراطات هذا العالم الذي يتحول إلى صور دماغية لحائية ذات طابع  إشراطي.

وبالتالي فإن إدراك الفعل النفسي مرهون بظروفه الخارجية والداخلية وبصورة أكثر تحديدا الفعل النفسي نتاج التفاعل بين الوسط الخارجي بمثيراته المختلفة مع الوسط الداخلي الذي يتجسد بالمناطق الدماغية وخاصة اللحاء الدماغي.

3. المادة أولية والشعور لاحق وثانوي وهذا يعني أن الأفكار والإحساسات تنبع من العالم الخارجي المادي الموجود بصورة مستقلة عن الوعي.

وهذه الفكرة تنطوي على مضامين بالغة الأهمية والخطورة في مجالات الصراعات الأيديولوجية الخاصة بالمسألة الأساسية للفلسفة وهي أن المادة سابقة للوعي في الوجود وفي مجال علم النفس أن الصورة الشعورية تولد في عالم المادة والظروف الخارجية وبعبارة أخرى ما من شيء يمكنه أن يولد في الشعور إلا كصورة منعكسة من صور العالم المادي.

وباختصار نازع الاختتام يمكن القول أن سيكولوجيا بافلوف Pavlov هي انتصار لآراء توماس هوبز Thomas Hobbes (1588-1679) الفلسفية فالعمليات العقلية والنفسية قابلة للدراسة والاختبار بصورة علمية لا مراء فيها.

وفي هذه المقولة يمكن القول بأن نظرية بافلوف Pavlov واستنادا إلى نتائجها العملية في ميادين الحياة المختلفة قدمت لعلم النفس أساسا علميا صلبا يعتمد على معطيات العلوم المختلفة من طب وفيزيولوجيا الأعصاب وفيزياء وبذلك يتجسد مسعى بافلوف Pavlov لإخراج علم النفس من متاهاته الأسطورية ذات الطابع التأملي الخالص.

يقول ويليام شكسبير  William Shakespeare ( 1564 – 1616 ) " أن الفرد الذي يضع يده على النار لا يمكنه أن يفكر في القوقاز المتجمد " وعلى خلاف ذلك  يعلمنا بافلوف Pavlov أن يبين لنا  كيف يستطيع  الإنسان الذي يركز حواسه وأفكاره على المنطقة المتجمدة  أن يمسك النار بيده دون أن يشعر بها.

إن الوقوف عند نظرية بافلوف Pavlov يمثل وقفة في محطة هامة من محطات التاريخ العلمية التي كان لها أثر كبير في دفع العجلات التاريخية للمعرفة العلمية في مجالات علم النفس وعلم النفس الفيزيولوجي وفيزيولوجيا الدماغ. وستبقى نظرية بافلوف Pavlov الارتكاسية مركز إشعاع علمي تاريخي يرسم للمفكرين مسارات مضيئة في مجال علم النفس الفيزيولوجي.

الاشراط الكلاسيكي بعد بافلوف

إن فهمنا للاشراط الكلاسيكي قد تغير بشكل كبير منذ تجارب بافلوف  Pavlov فنحن الآن نعرف أن الاشراط ليس عملية آلية أو اتوماتيكية تربط ببساطة بين مثير شرطي واستجابة شرطية.

إن علماء النفس في الوقت الحاضر يعطون اهتماماً وتركيزاً أكبر على المعلومات التي يقدمها المثير الشرطي للفرد الذي يتعرض لهذا المثير.

ففي نظرية المترتبات Contingency Theory تبلور أحد المبادئ من البحوث المستمرة يفيد: كلما كان المثير الشرطي أقدر وأفضل في التنبؤ بظهور الاستجابة الشرطية فإن الاشراط يكون أقوى, الدراسة على الاشراط الكلاسيكي التي توضح ذلك أجريت على مجموعتين من الفئران بالنسبة للمجموعة الأولى فإن المثير الشرطي ( لحن ) كان يتبع دوماً بمثير غير شرطي ( صدمة ) سميت هذه المجموعة Contingent لأن الصدمة كانت ملازمة وتتبع اللحن دوماً.

في المجموعة الثانية كانت الفئران تسمع اللحن بعد أو قبل تقديم الصدمة وسميت هذه المجموعة no contingent لأن الصدمة لم تكن ملازمة للحن. ولأن اللحن كان متنبئاً فعالاً بالاستجابة الشرطية في حالة المجموعة الأولى فأن الاشراط الكلاسيكي كان أقوى وكان أضعف عند المجموعة الثانية لأن المثير الشرطي لم يسبق غير الشرطي دوماً.

 

تورد أدبيات الاشراط الكلاسيكي الأحدث المثال التالي:

 افترض أنك ذهبت مع مجموعة من الأصدقاء إلى أحد المطاعم وكان جو المكان وتنظيمه مريحاً واستمعت بوجبة شهية ولكن ما أن عدت إلى البيت بدأت تشعر بألم حاد في معدتك منعك من النوم ومررت بخبرة مؤلمة حملت معها الكثير من المعاناة والألم.

إن هذه الأحداث لا تبدو كما يشير وصفها إنها تتضمن تعلماً ولكن في حقيقة الأمر فإن الاشراط الكلاسيكي أخذ مكانه خلال هذه الأحداث.

 أنك سوف تتجنب هذا النوع من الطعام في المرات القادمة ولكن لماذا ؟

كما يبدو فإن الدماغ البشري لا يكون حساساً بنفس الدرجة إلى كل أنواع المثيرات. إن بعض أنواع المثيرات تكون أكثر أهمية للبقاء من مثيرات أخرى وعمليات التطوير هيأت الدماغ لتحديد بعض أنماط من الارتباط السببي بسهولة أكثر من غيرها.

هل حالة الشعور بالغثيان عند تناول طعام غير مألوف لها علاقة بعملية التعلم ؟

إن مفهوم التنبؤ يفيد في تفسير ما حدث عندما يشعر الحيوان أو الإنسان بالمرض أو الألم لتناول طعام لم يتذوقه من قبل فإن الطعام أو المذاق (مثير شرطي ) يصبح عاملاً متنبئاً بظهور الإعياء أو المرض.

يطور الفرد كرهاً شديداً لذلك الطعام أو المذاق الذي ارتبط مع المرض. لقد أوضح  John Garcia ( 1960 ) أنه عند استخدام مذاق جديد غير مألوف كمثير شرطي وكان المرض و الغثيان استجابة غير شرطية. فإن الجرذان طورت كرهاً شديداً لذاك المذاق وهو ما عرف لاحقاً بـ Gracia effect. يحدث الاشراط الكلاسيكي للحن الطعام بأوضح صورة عندما يسمع اللحن قبل تقديم الطعام بنصف دقيقة ولكن الكره الشديد لمذاق الطعام يظهر عندما يظهر المرض بعد مضي ساعة من تناول ذاك الطعام, عندما قدم Garcia نتائج تجاربه لأول مرة قوبلت بشيء من الشك لأنها بدت وكأنها لا تتبع مبادئ الاشراط الكلاسيكي.

إن طول الفترة الزمنية بين تقديم المثير الشرطي والمثير غير الشرطي كانت عاملاً يتناقض مع ما توصل غليه الباحثون من تجارب عديدة في مختبراتهم حول الاشراط الكلاسيكي. ولذلك رفضت المجلات المعتمدة في البحوث العلمية نشر ما توصل إليه  Garcia,  ولكن يرجع الفضل إلى تصميمه في أن أصبحت أبحاثه فيما بعد مقبولة وشكلت مرجعاً في توضيح أن التطور الوراثي للحيوان يضع حدوداً لما يمكن أن يم تعلمه.

لابد من الإشارة إلى نقطتين هامتين حول الكراهية للمذاق:

1. لابد أن يكون المذاق غريباً وغير مألوف لكي يرتبط مع حالة المرض.

2. يمكن أن تكون المدة الزمنية بين المثير الشرطي والمثير غير الشرطي طويلة إلى حد ما ومع ذلك فإن اشراطاً قوياً لابد وأن يحدث.

في حالة الكائن الإنساني يبدو أن العضوية لديها استعداد بيولوجي لتعلم استجابات شرطية معينة أكثر من استجابات أخرى. في حالة الفرد الإنساني فإن الطعم أو المذاق والمرض يشكلان اقتراناً طبيعياً وكذلك اقتران لحن أو ضوء مع تقديم صدمة كهربائية. لوحظ في المقابل أنه عند اقتران اللحن أو الضوء مع المرض أو المذاق فإن العلاقة الشرطية المتكونة تكون ضعيفة.

وأن أنواع الذكاء ما هي إلا أساليب تعلم, و أن بعض الذكاءات من مثل, الذكاء الانفعالي والذكاء الأخلاقي ما هي إلاَّ  نواتج عمليات التعلم الهادفة إلى تحقيق التكيف الناجح من خلال إحداث التغير النوعي في العلميات الانفعالية أو الأحكام الأخلاقية.

تطبيقات النظرية وتوظيفاتها في مجالات الحياة النفسية والاجتماعية:

لم تعد الأمراض النفسية والعقلية بعيدة عن الفهم والعلاج منذ أن قدم بافلوف Pavlov الأساس الفيزيولوجي الواضح لها.

مع أن نظرية بافلوف Pavlov تنطوي على ابتكارات لا تقل أهمية  في مجال فيزيولوجيا الأعصاب وفي التعلم فإن تطبيقات هذه النظرية وتوظيفاتها النفسية ما زالت تمثل قطب الرحى من حيث الأهمية.

لقد برهنت هذه النظرية عن إمكانيات هائلة في مجال المعالجة النفسية وشفاء المرضى العقليين في مجالات متعددة وخاصة في مجال الهيستيريا والعصاب والفصام والإضرابات العقلية والنفسية بصورة عامه.

حيث يمكن توظيف نموذج الاشراط الكلاسيكي في مواقف علاجية. ففي حالة الفوبيا ( Pho-bia ) الخوف المرضي غير المنطقي يمكن تفسيره بهذا النموذج وذلك بالبحث عن المثير الشرطي الذي كان محايداً ولا علاقة له بالخوف وصار قادراً على استجرار نفس الاستجابة. فإذا كان من المنطقي أن يخاف الطفل من الظلمة أو الصراصير أو الفئران فإنه من غير المنطقي أن يخاف من صوت قرع الباب مثلاً أو سماع صوت سيارة مارة في الطريق, أو رؤية امرأة غريبة... الخ.

هذا من حيث التفسير, أما من حيث العلاج فيعتمد على إطفاء استجابة الخوف بتقديم المثير الشرطي دون إقرانه بالمثير الطبيعي المثير للخوف. أو إقران مثير جديد مع المثير الشرطي المثير لاستجابة الخوف وفي نفس وقت ظهور هذا المثير الجديد يقدم للطفل شيئاً يحبه ( حلوى, حليب, بسكويت ). على أساس أن يتعلم الطفل أن هذا المثير الذي ينبغي أن يخيفه يحبه فيقدم له الحلوى مثلاً.

وبالمثل يمكن للاشراط الكلاسيكي تفسير الانفعالات السارة لأحداث أو أشياء من حولنا من مثل: رؤية القمر  بدراً, منظر قوس قزح, يوم ربيعي مشمس, أنشودة محبوبة... الخ. إذ يمكن للمكان التي تمت فيه مثل هذه الأحداث أن تستجر الاستجابة الانفعالية السارة كالاسترخاء والشعور بالمتعة.

وبالمثل يمكن الاستفادة من " الاستعادة التدريجية " للاستجابة الشرطية المتعلمة بعد أن تكون قد ضعفت سواءً بفعل الاعتياد على المثير الشرطي، أو بفعل ضعف ذلك المثير. وهذه الاستعادة نلجأ إليها عندما تكون الاستجابة الشرطية مرغوب فيها كان يُصَرُّ الطفل على الذهاب إلى المسجد للصلاة يوم الجمعة. ويلاحظ عليه الأهل أن حماسه للذهاب بدأ يضعف عندئذ لابد من البحث عن المثير الشرطي وإقرانه بالمثير الطبيعي حتى يستعيد الطفل حماسه للصلاة في المسجد .

فالدراسات التي تمحورت حول الأسس الخلوية للتعلم لدى " محار البحر " ( Marine Snail ) وهي عضوية بسيطة يمكن ملاحظة خلاياها العصبية بواسطة الميكروسكوب, أفادت بأن التعلم الذي يحدث عبر تزايد وتناقص كمية الناقلات العصبية التي تطلقها الخلية العصبية في أزرارها النهائية.

 فالتعلم عادة ما يغير من التركيب الخلوي, ويحول الأحداث البيئية إلى تغيرات فيزيقية في الجهاز العصبي. (Westen,1996, p.184 ) .

وما يؤسف له حقا, أن معطيات هذه النظرية القابلة لاستثمارات غير إنسانية, وظفت بصورة غير إنسانية وخاصة في عمليات " غسل الدماغ ", حيث قدمت هذه النظرية الأسس العلمية لعمليات غسل الدماغ عن طريق ما يسميه بافلوف Pavlov " العصاب التجريبي " الذي يؤدي إلى هدم الارتباطات الشرطية الموضوعية في المخ, ويعمل على تصفية ثوابت الارتباطات القائمة وفق نظام جديد من الشرطية المتنافرة التي يمكن أن  تؤدي ببساطة إلى الخلل العقلي وإلى الفصام والاضطرابات النفسية المتنوعة وخاصة الجنون.

لقد استخدمت معطيات هذه النظرية أثناء الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حروب في تعذيب الأسرى وغسل أدمغتهم بصورة واسعة. كما استخدمت في الحرب بصورة واسعة. لقد لجأ خبراء علم النفس السوفييت أثناء الحرب العالمية الثانية إلى توظيف الكلاب التي تم تشريطها سيكولوجيا على تناول الطعام تحت الدبابات والعربات حيث كانت الكلاب تجوع لمدة يوم كامل ثم يوضع على جسدها ألغاما مضادة للدرع ومزودة بهوائي موجه إلى الأعلى بحيث يؤدي في حال ارتطامه بجسد الدبابة إلى الانفجار. وهكذا كان يتم إطلاق الكلاب في ساحات المعارك تحت تأثير الجوع والتي كانت تنقض بفعل الارتكاسات الشرطية البافلوفية  على الدبابات الألمانية فتنشر الرعب والموت في صفوف الألمان النازيين.

وغني عن البيان أن نظرية بافلوف Pavlov هذه التي دفعت مسارات البحث في ميادين عدة وجدت فيما بعد تطويرها الأصيل على يد المفكر العبقري الأمريكي سكينر Burrhus Frederic Skinner ( 1904 – 1990 )  الذي ابتكر بصورة خلاقة مفهوم الإشراط الإجرائي الذي يعد بحق تتويجا لنظرية بافلوف Pavlov وتجاوزا لها في الوقت نفسه حيث استطاع سكينر Skinner لاحقا أن يفسر جملة أنماط السلوك الإنساني وفقا لطريقة جديدة في فهمه لمبدأ الاستجابة  الشرطية والتي تتمثل في الاستجابة  الإجرائية.