التربية الموازنة

التربية الموازنة (comparative education):

علم من العلوم الإنسانيَّة المركبة حديثة التكوين نسبياً، ويهدف إلى تحليل مختلف ظواهر التربية ومفاهيمها وعلاقاتها مع الإطار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي بموازنة أوجه الشبه والاختلاف في بلدين أو أكثر، أو على المستوى العالمي من أجل فهم أفضل للطابع الفريد لكل ظاهرة ضمن نظامها التربوي الخاص بها، أو إيجاد تعميمات مشروعة ومتوخاة في سبيل هدف مرتجى هو تحسين التربية. ويرجع الباحثون التربويون تاريخ ولادة التربية الموازنة إلى عام (1817) على يد مارك أنطوان جوليان الباريسي الذي نشر كتاباً عن التربية الموازنة بعنوان (مخطط ونظرة أوليَّة لمؤلف عن التربية الموازنة) وضع فيه الأسس العامة والقواعد التي تجعل من التربية الموازنة علماً موضوعياً لا يخضع لتأثير الآراء الشخصيَّة، ويعدُ مارك بذلك المؤسس الأول لعلم التربية الموازنة في العصر الحديث.



إلا أنّ جذور التربية الموازنة تمتد، بشكلها الخام أو في إطارها الوصفي البحت، إلى تلك الرحلات والزيارات التي كان يقوم بها بعض العلماء والفلاسفة والمغامرين إلى بلدان مختلفة، فيعمدون إلى تدوين ملاحظاتهم وانطباعاتهم، وسجلت هذه الملاحظات بطريقة عرضية تهدف إلى تزويد القارئ أو المستمع بفكرة أو تصور عن حياة الشعوب والمجتمعات الغريبة عنه. وكان لهذه الملاحظات أكبر الأثر في تطوير بعض المجتمعات القديمة.

 

ونقل فيثاغورس إلى اليونانيين صورة شاملة عن مدى تطور علم الحساب والرياضيات في مصر، وعلى الخصوص فيما يتعلَّق بالمثلثات والزوايا والأوزان وعلم المساحة. كذلك فعل هيرودوت فيما يتعلَّق بالتاريخ والقانون ونظام الحكم.

ويعد ابن جبير واحداً من الرحالة العرب الذين اهتموا بالجانب التربوي والتعليمي في رحلاتهم. وفي كتابه (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) يتطرق ابن بطوطة إلى الجوانب التربويَّة لدى أهل المشرق ومدى اهتمامهم بالعلوم والآداب، كما قدم وصفاً شاملاً للمدرسة المستنصرية وطرائق التدريس فيها.

ويذهب ابن خلدون إلى تقديم صورة تربويَّة متكاملة عن طرائق التدريس في كل من الأندلس والمغرب العربي وتونس والمشرق العربي يوضح فيها أثر التباين الثقافي والحضاري والاجتماعي في التربية وطرائق تدريسها ومناهجها وأصولها النفسيَّة والمهنيَّة برؤية الباحث الناقد.

 

تطور مفهوم التربية الموازنة:

بدأت الكتابات عن نظم التعليم في الدول الأجنبية تستقل عن غيرها من الكتابات الشاملة لمعالم الحياة وجوانبها المختلفة في تلك البلاد. وأمكن استخدام التربية الموازنة في القرن التاسع عشر لاقتباس أنظمة تربويَّة متكاملة ونقلها إلى بلد آخر وتأسيس معاهد وجامعات. ومن أهم أعلام التربية الموازنة في تلك الآونة الأمريكي جون غريسكم، والفرنسي فكتور كوزان، والإنكليزي ماثيو أرنولد.

ومع بداية القرن العشرين، انتقلت التربية الموازنة إلى مرحلة جديدة من مراحل تطوُّرها، وكان ذلك نتيجة للتطوُّر العلمي والثقافي والتكتلات السياسيَّة والاقتصاديَّة العالميَّة، انتقلت من مرحلة جمع المعلومات الوصفيَّة، إلى المرحلة التحليليَّة التفسيريَّة للعوامل المختلفة التي تؤثر في نظم التعليم. ويسمي جورج بيريداي هذه المرحلة بمرحلة (التنبؤ) لأن هدف الدراسات الموازنة لم يكن الاستعارة أو النقل وإنما التنبؤ بمدى إمكان نجاح نظام التعليم في بلد ما، على أساس ملاحظة الخبرات المتشابهة للدول الأخرى، واستخدمت مثالاً، نموذجاً لتعميم التعليم في مُؤسَّسات تربويَّة مثل المدارس الابتدائيَّة والثانويَّة ونشر خدمات أخرى مساعدة.

 

ولعل أهم الدراسات التربويَّة الموازنة التي ظهرت في بداية القرن العشرين، دراسة المربي الإنكليزي مايكل سادلر، التي صدرت عام (1900)، تحت عنوان (إلى أي حد نستطيع أن نتعلَّم شيئاً ذا قيمة عمليَّة من دراسة نظم التربية الأجنبية). وكان سادلر يؤمن بأن للنظم القوميَّة للتعليم طابعها الخاص، ولا يمكن نقلها من مكان إلى آخر. وتكمن أهمية سادلر في الدراسات التربويَّة الموازنة أنه أضاف إليها البعد الاجتماعي إلى جانب بعدها التاريخي. وفي النصف الأول من القرن العشرين ظلت معظم الدراسات التربويَّة الموازنة تسير على غرار مارسمه سادلر، مما يدل على تأثيره العميق في دارسي التربية الموازنة طوال تلك المدّة.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين، استخدمت التربية الموازنة دليلاً لقراءات سياسيَّة، واقتصاديَّة واجتماعيَّة من منظور دولي بالاستعانة بالشواهد التي تقدمها بحوث التربية الموازنة. وتطوَّرت التربية الموازنة بأبعادها المختلفة على يد مجموعة من المربين منهم على سبيل المثال: فردريك شنايدر إذ استخدم المنهج التاريخي في معالجته للمشكلات التربويَّة في كثير من البلدان، وإسحق كاندل الذي أكد أن الإسهام الرئيس للتربية الموازنة يتمثل في كونها ترتبط بأصول رئيسة، واكتساب اتجاه فلسفي في تحليل يؤدي إلى فهم واضح لمشكلات التربية. وينوّه جوزيف لورايز، أستاذ التربية الموازنة في جامعة لندن، بالتقاليد الفلسفيَّة في الدراسات الموازنة، ويُؤكِّد لورايز على أهمية العوامل القوميَّة العالميَّة في تقديم الخدمات التربويَّة والتعليميَّة على نطاق واسع. ويذكر مثلاً على ذلك الفلسفة البرغماتية الأمريكيَّة، والمثالية الألمانية، والعقلانيَّة الفرنسيَّة، والتجريبيَّة الإنكليزية، والماديَّة الجدلية السوفييتية. التي تؤثر في النظم التعليميَّة والمناهج الدراسيَّة وطرائق التدريس المُستخدَمة.

أما هولمز فقد استخدم خطوات التحليل النقدي لجون ديوي والثنائية الحرجة (المواءمة ما بين القوانين الطبيعيَّة والقوانين الاجتماعيَّة في اتخاذ القرارات المهمة) لكارل بوبر ونظريات التغيُّر الاجتماعي أساساً نظرياً لمنهجه في الدراسات الموازنة.

 

ويرى بيريداي أن ميدان البحث في التربية الموازنة يقسم من حيث المبدأ إلى نوعين رئيسين:

  • الدراسات المجالية أو المنطقيَّة بحيث تنحصر الدراسات في منطقة جغرافية مُحدَّدة
    (قرية، منطقة تعليميَّة، مدينة، قطر، إقليم).
  • الدراسات الموازنة، وتشمل جميع أوضاع التربية في منطقة تعليميَّة أو مدينة أو بلد أو إقليم.

 

وترتكز الدراسات التربويَّة الموازنة في الوقت الراهن على الإطارات الآتية:

  1. الإطار المعياري: ويتحدَّد هذا الإطار من خلال استخدام الأساليب المُستخدَمة في القياس، سواء أكان ذلك في علم النفس أم في علم الاجتماع. مثل (قياس الاتجاهات وتعرف آراء الناس والاستفتاءات والاستبيان واستطلاع الآراء).
  2. الإطار التأسيسي: يعتمد الإطار التأسيسي (للموضوعات الموازنة) وفق أسس الثنائية الحرجة، على التحليل الوصفي لنظام التعليم في إطاره الثقافي، والتحليل هنا يكشف عن دور وفاعليَّة المُؤسَّسات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والإداريَّة في تحديد ملامح النظام التربوي.
  3. الإطار الطبيعي: ويشمل هذا الإطار تحليل المصادر الطبيعيَّة والديموغرافية للبلاد، وما يحظى به البلد موضوع الدراسة من ثروات رئيسة من النفط أو المعادن أو المواد الخام وارتباطها بالأنشطة الصناعيَّة والمستوى الاقتصادي للدولة، ومدى قدرتها على تخصيص أموال للإنفاق على التعليم. ويتضمَّن الإطار الطبيعي، كما يراه هولمز تحليل الجانب الديمقراطي للسكان وعلاقته بالتعليم، وما يتطلَّبه من توسع في حجم التعليم أو زيادة الفرص التعليميَّة.

 

واقع علم التربية الموازنة وآفاقه

قطعت التربية الموازنة، على الصعيد العالمي شوطاً مهماً في طريق تحديد هويتها العلميَّة وأسست للمرحلة الآتية، التي جاءت في أعقاب الحرب العالميَّة الثانية، والتي يطلق عليها في أدبيات التربية الموازنة مرحلة المنهجيَّة العلميَّة، بدأت هذه المرحلة منذ منتصف القرن العشرين وما تزال مستمرة.

ويُؤكِّد رائد التربية الموازنة ايكشتاين على أهمية استخدام الطرائق والأساليب المنهجيَّة العلميَّة المعروفة في العلوم الاجتماعيَّة المعاصرة، والتي تتميَّز بالاستقصاء الكمي الإمبريقي المنظم والمضبوط لفروض مصوغة بوضوح في الدراسات التربويَّة الموازنة ذات الصبغة الاجتماعيَّة. فأهم ما تعاني منه التربية الموازنة في نظره هو مشكلة تميز شخصيتها بوصفه ميداناً مستقلاً، وإنّ هذه المشكلة ترجع إلى مفهومها الانتقائي، وإن مستقبل التربية الموازنة برمته مرهون بإمكانيَّة استخدام الوسائل العلميَّة والمنهجيَّة في الدراسات التربويَّة الموازنة.

ومن المعتقد أن مستقبل التربية الموازنة يتوقف على مدى تحقيق أهدافها التي تبدو في تطوير عمليات الإصلاح التربوي الشامل بما ينسجم والأحوال الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المتغيرة، وهي من هذه الناحية تتصف بحركيَّة وظيفيَّة نفعية حسب رأي هانز، وفي مدى قدرتها على حل المشكلات التربويَّة في البلدان المختلفة، وإحداث تغيرات في السياسة التعليميَّة بصورة سليمة وبناءة.

 

الهيئات والمُؤسَّسات التربويَّة التي تعنى بالتربية الموازنة

  1. المكتب الدولي للتربية: أنشئ هذا المكتب في جنيف عام (1925) لتشجيع العلاقات الدوليَّة في ميدان التربية. ومن أهم المطبوعات التي يصدرها المكتب (الحولية الدوليَّة للتربية) تتضمَّن التطوُّرات التربويَّة التي حدثت خلال عام في عدد كبير من البلدان.

ويقدم المكتب ملخصاً عن التطبيقات العمليَّة لكثير من نواحي التربية ووصفاً للتعليم في بعض الدول.

  1. اليونسكو: وكالة من وكالات الأمم المتحدة تعنى بالتربية والعلوم والثقافة في بلدان العالم المختلفة. تمَّ إنشاؤها عام (1946) ومقرها الدائم باريس. وتعد الموسوعة العالميَّة للتربية التي أصدرتها اليونسكو عام (1952) من أهم الأعمال التربويَّة التي قامت بها في مجال تطوير التربية الموازنة على الصعيد العالمي. وعمدت اليونسكو إلى تأسيس (معهد التربية الموازنة في هامبورغ، ألمانيا بغية العمل على دراسة أوضاع علم التربية الموازنة وتحديد أهدافه واتجاهاته ووسائله وطرائق استخدامه على مختلف الصعد التربويَّة العالميَّة.
  2. المُنظَّمة العربيَّة للتربية والثقافة والعلوم: أنشئت هذه المُنظَّمة عام (1970) لتعنى بشؤون التربية والثقافة والعلوم في البلدان العربيَّة في إطار جامعة الدول العربيَّة. وتسهم المُنظَّمة في تطوير التربية العربيَّة وتقديم الدراسات المسحية وتعميم تجارب وخبرات الأقطار العربيَّة المختلفة.
  3. المُنظَّمة الإسلاميَّة للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو): انعقد المؤتمر العام التأسيسي للمُنظَّمة في فاس بالمغرب عام 1982، وتهدف هذه المُنظَّمة إلى تطوير التربية والعلوم والثقافة في العالم الإسلامي إضافة إلى تبادل الخبرات والتجارب والتنسيق المشترك فيما بينها.

 

المصدر: الموسوعة العربيَّة لتنمية الذات

 

  • شبل بدران، التربية الموازنة «دراسات في نظم التعليم» (الإسكندرية 1993).
  • محمد منير مرسي، المرجع في التربية الموازنة (عالم الكتب، القاهرة 1981).
  • إدموند كنغ، التربية الموازنة (منطلقات نظريَّة ودراسات تطبيقيَّة)، ترجمة ملكة أبيض، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1989).
  • هانك فان دايل، التربية الموازنة، ترجمة جورجيت الحداد (بيروت 1997).