التحوُّل إلى التفكير العلمي

كان التعلُّم في مفهومه العام والشامل (ولا يزال) الشغل الشاغل لعامة البشر لأنه أصلاً يُعنى بدراسة التغيُّرات التي تطرأ على السلوك والخبرة، وعندما يقال السلوك والخبرة، فهذا يشمل تعلم أي نوع من السلوكيات الجديدة التي نسميها مهارات، سواء كانت تلك المهارات تخص الأطفال أم الفتيان أم الكبار من كافة المراحل العمرية، فتناوُل الطعام عند الرضيع، والمشي، والاستجابة بالهرب من الكلب أو محاولة الاتصال معه، وفك جهاز ما أو تركيبه.كلها تسمى عمليات تعلم يمكن أن تحدث بقصد أو بالمصادفة، وكذلك يمكن أن تحدث برغبة أو بدون رغبة، و ذلك لأنها تؤدي إلى تغيرات في السلوك والخبرة، وهذه التغيُّرات هي ما يطلق عليها عمليَّة اكتساب المعرفة، وعمليَّة اكتساب المعرفة في ذاتها تُشعر الفرد بالتفوُّق والتميُّز وتُعزِز التقدير الذاتي لديه على الرغم من أنه في الكثير من الحالات قد لا تتم بطرائق علميَّة بل بحكم الحاجة، و أحياناً بالمصادفات التي تولِد تساؤلات قد يقود البحث عن إجاباتٍ لها إلى اكتشافات علميَّة رائعة كتلك التي حصلت مع أرخميدس في قصته المعروفة عندما اكتشف تلك القوة الدافعة التي تدفع الأجسام إلى أن تطفو فوق الماء، والتي سميت فيما بعد باسمه (دافعة أرخميدس).

 



تُجمِعُ المراجع العلميَّة على تعريف العلم بأنه جمع المعرفة والمعلومات حول ظاهرة ما بطرائق موضوعيَّة تقوم على الملاحظة العلميَّة والتجريب بهدف تفسيرها والتنبؤ بها وضبطها. ويهدف العلم عادة إلى تحقيق ثلاثة أهداف هي:

  • الفهم: ويتمثل في:
    محاولة تفسير الظواهر وتحديد أسبابها الحقيقيَّة والعوامل المؤثرة فيها.
  • التنبؤ: ويعني:
    حدوث الظاهرة في ضوء بروز بعض المؤشرات الدالة عليها مثل أسبابها أو عواملها.
  • الضبط: ويشير إلى:
    إمكانيَّة التحكُّم بظاهرة وتوجيهها من خلال التحكُّم بأسبابها وعواملها.

 

ومن أكثر الأمثلة الواقعيَّة شهرةً في حياتنا عن أهداف العلم كان اكتشاف نيوتن لقانون الجاذبية، فقد شاهد (كما شاهد الكثير من البشر) التفاحة وهي تسقط من الشجرة، لكنه ربما فعل هذا وحده وليس كباقي البشر فقد حاوَلَ أولاً الفهم أي تفسير الظاهرة وتحديد أسبابها الحقيقيَّة والعوامل المؤثرة فيها، ثم حاوَلَ ثانياً التنبؤ ببعض المؤشرات الدالة على الظاهرة مثل أسبابها أو عواملها، وثالثاً بَحَثَ في إمكانيَّة التحكُّم بالظاهرة وتوجيهها من خلال التحكُّم بأسبابها وعواملها، فاكتشف قانون الجاذبية.

بذلك فقد كانت له أهداف علميَّة من خلال ملاحظته لظاهرة بسيطة ومألوفة جداً مثل ظاهرة سقوط التفاحة، لكن الفرق عند نيوتن كان في محاولته فهم الظاهرة من خلال تساؤل غاية في البساطة والأهمية، وهو: لماذا لم ترتفع التفاحة الى الأعلى أو تبقى واقفة في مكانها عندما انفصلت عن الغصن؟

 

لذلك قد يكون من الملائم لكل شخص يرغب في تطوير تفكيره بطريقة علميَّة أن يتبع الخطوات الثلاث المذكورة آنفاً (الفهم، التنبؤ، الضبط). وإتباع هذه الخطوات قد يبدو صعباً للوهلة الأولى، ولكن في حقيقة الأمر فإننا بوصفنا بشراً عاديين نفكر في كل شيء تقريباً باستخدام استراتيجيات فطريَّة أو مكتسبة تبعاً للخبرات التي عشناها في بيئاتنا المُتنوِّعة، أي أن التفكير عمليَّة مألوفة بالنسبة إلينا، كل ما علينا فعله لجعله علمياً (أو أقرب ما يمكن إلى العلميَّة) هو إعادة تشكيل الاستراتيجيَّة بحيث تبدأ بمحاولة الفهم، ثم التنبؤ، وأخيراً الضبط.

 

وعلى الرغم من أنّ عمليَّة إعادة التشكيل هذه قد تستغرق بعض الوقت حتى تتحول إلى سلوك عفوي لا واعٍ عند الشخص، ولا يمكن الاعتقاد في حقيقة الأمر بأن كل من سيفكر بطريقة علميَّة سيصبح بالضرورة نيوتن آخر، إلا أن عمليَّة إعادة تشكيل الاستراتيجيَّة هذه لها من الآثار الإيجابيَّة على مستوى التفكير والسلوك ما يصعب فعلاً حصره في هذا المقال.

 

المراجع: كتاب نظريات التعلُّم، د. عماد الزغول، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن