الإعجاز في أسلوب الرسول التعليمي

عندما نتأمل الأساليب الحديثة في التعليم والتدريس نجد اكتشافات لعلماء عديدين يُؤكِّدون على قواعد مُحدَّدة في التعليم، فماذا عن أسلوب النبي الكريم؟ لقد جاء النبي الكريم في عصر انتشرت فيه الأساطير وسيطرت فيه الخرافات على عقول البشر، وكان العرب يتبعون أساليب معينة في التعليم معظمها خاطئ، مثل التأنيب والعقاب والاستهزاء بالآخرين، وكانت تأخذهم حميَّة الجاهليَّة.
لقد جاء النبي في ذلك العصر الصعب، كانوا يستقون معلوماتهم من الكهان والعرافين، ويقتنعون بكلام المنجمين المزخرف، ويمكن القول إن الأساليب العلميَّة الصحيحة في التعليم والتدريس والإدارة لم تُطبق إلا في العصر الحديث أي بعد وفاة النبي الكريم بأربعة عشر قرناً. وسوف نرى من خلال هذه المقالة كيف أن أسلوب النبي الكريم في تعليم أصحابه يتوافق مع أحدث النظريات التعليميَّة التي يُؤكِّد صحتها عدد كبير من العلماء اليوم.



التدرج من العام إلى الخاص:
من أهم الأساليب الحديثة المُتَّبَعة في تدريس الطلاب وفي جميع المراحل هو التدرج من العام إلى الخاص. فالمُعلِّم الناجح يبدأ مع طلابه بالمعلومات العامة أولاً ثم يتدرج نحو المعلومات الخاصة والمُحدَّدة.

فمثلاً عندما نريد تدريس المُتعلِّم علم الفلك نبدأ معه بالحديث عن الكون وأجزائه والمجرات والنجوم والمجموعة الشمسية وغير ذلك من المعلومات العامة. ثم نحدثه عن توسع الكون والانفجار الكبير ومستقبل الكون، ثم نحدثه عن الثقوب السوداء وما يحدث من عمليات دقيقة في داخلها، ثم نحدثه عن الانفجارات النجمية والتفاعلات النووية فيها وغير ذلك من المعلومات الدقيقة.

أي أن التعليم يبدأ من العام ثم يتجه نحو الخاص، والعجيب أن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام قد اتبع هذا الأسلوب في جميع تعاليمه. فهذا هو سيدنا جندب بن عبد الله رضي الله عنه يقول: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة "أي قاربنا البلوغ" فتعلَّمنا الإيمان قبل أن نتعلَّم القرآن، ثم تعلَّمنا القرآن فازددنا إيماناً) (رواه ابن ماجة).

 

أسلوب الترغيب أكثر من أسلوب الترهيب:
وينصح بهذا الأسلوب علماء البرمجة اللغويَّة العصبية، فهم يُؤكِّدون دائماً على أنك بدلاً من أن تهدد التلميذ أو المُوظَّف أو ابنك... بالعقاب وتشغل تفكيره بتخيلات ومخاوف هو في غنى عنها، بدلاً من ذلك يفضل أن تملأ دماغه بالتفاؤل وأن تبشره بالخير والثواب، فإن ذلك سيجعله إنساناً إيجابياً يستطيع استثمار وقته بطريقة مفيدة.

لو تأملنا أحاديث النبي الأعظم عليه صلوات الله وسلامه لوجدناها تزخر بالتعاليم الإيجابيَّة، فمن منا لا يذكر حديث أولئك السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومن منا لا يذكر الحديث الشهير الذي يحمله كل داعية في قلبه: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا) (البخاري ومسلم).

لقد كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يثني على المؤمنين ويشجعهم في كثير من المواقف، وكان يتجنب الانتقادات المباشرة، فعندما يرى رجلاً قد أخطأ فلا يسميه باسمه بل يقول: (ما لي أرى أقواماً فعلوا كذا وكذا...)، وهذا من أرقى الأساليب في فن الإدارة الحديث [1].

 

التدرج في الأعمال والمعلومات:
من أسس النجاح في الحياة أن يكون لديك أولويات تُحدِّدها بوضوح، أو أهداف واضحة تُحدِّدها حسب أهميتها. فالإنسان الناجح يستطيع وضع استراتيجيَّة واضحة لحياته وما الخطوات التي ينبغي له القيام بها أو الاهتمام بها أولاً.

هذا الأمر ضروري لكل إنسان يريد النجاح في الدنيا، ولكن النبي الرحيم عليه الصلاة والسلام يريد لنا النجاح في الدنيا والآخرة، ولذلك نجد هذا الأسلوب التعليمي في ترتيب الأعمال حسب أهميتها، نجد هذا الأسلوب يتكرر كثيراً في تعاليم سيد البشر عليه الصلاة والسلام.

فمن منا لا يذكر ذلك الرجل الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره بأحب الأعمال إلى الله تعالى، فقال له: (الصلاة على وقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله) (رواه البخاري ومسلم). وهنا نلاحظ أن الرسول الكريم قد وضع أولويات أمام هذا الرجل ليكون اهتمامه أكثر.

 

أسلوب الأمثلة في التعليم:
يُؤكِّد علماء التعليم اليوم أن أفضل أسلوب للتعلُّم هو الأمثلة، أي أنك إذا أردت أن تعلم إنساناً شيئاً يترسخ في ذاكرته ولا ينساه أبداً وجب عليك أن تضرب له مثلاً أو تشبيهاً، وسوف تنطبع المعلومات في ذهنه، ولكن لماذا هذا الأسلوب؟
لقد اكتشف العلماء أن ذاكرة الإنسان تستخدم هذا الأسلوب في التذكُّر، فأنت عندما تشم رائحة معينة قد تذكرك بموقف قديم حدث معك وارتبط بهذه الرائحة. وعندما تسمع أغنية فإنك تتذكَّر على الفور ذلك الموقف الذي سمعت فيه هذه الأغنية منذ سنوات طويلة.... وهكذا.
ولذلك فإن العلماء يُؤكِّدون على ضرورة استخدام هذا الأسلوب في التعليم، وهذا ما فعله نبينا عليه الصلاة والسلام في معظم أحاديثه. فقد كان ينتظر الفرصة المناسبة ليوجه النصيحة ويربطها بتشبيه يقرب فهمها من الأذهان.
وكلنا يتذكر ذلك الحديث عندما قال النبي الكريم: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من دَرنه "أي وسخه" شيء؟ فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) (البخاري ومسلم).

 

 أسلوب الحوار التعليمي
ما أكثر الأحاديث النبويَّة الشريفة التي جاءت على شكل حوار تعليمي، هذا الأسلوب يُؤكِّده علماء النفس حديثاً، وهو أن الحوار التعليمي مهم جداً لترسيخ المعلومات في أثناء التعلُّم وجعل الدرس أكثر تشويقاً ومتعة ومشاركة من قِبَلِ المُتعلِّمين.
ولو تأملنا كتاب الله تعالى وجدنا بهذا الأسلوب في معظم صفحاته، ويكفي أن نعلم بأن كلمة (قُل) تكررت ي القرآن (332) مرة. وبهذا العدد نفسه تكررت كلمة (قالوا) أي (332) مرة، وهاتين الكلمتين تستخدمان للحوار والنقاش والجدال.
ولذلك فقد استخدم حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب الحواري في كثير من أحاديثه، فعلى سبيل المثال، يسأل النبي أصحابه:

يقول عليه الصلاة والسلام: (أتدرون من المسلم)؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
ثم قال (أتدرون من المؤمن)؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: (المؤمن من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم).
وهذه الأساليب تكررت كثيراً في كلامه عليه الصلاة والسلام. وإن دلّ هذا على شيء فهو يدل على أن كل كلمة نطق بها هذا النبي الأمي هي الحق، وأن تعاليم الإسلام صالحة لكل زمان ومكان، وأخيراً ندعو بدعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها) (رواه مسلم).

 

المصدر: المهندس عبد الدايم الكحيل.

المراجع

  1. القرآن الكريم.
  2. صحيحا البخاري ومسلم.
  3. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم - سنن ابن ماجة.

 

مراجع أجنبية

  • Gregory Blencoe, The Eight Rules of Management, www.refresher.com.
  • Leadership, en.wikipedia.org.
  • Developing Yourself and Others, 1000ventures.com.