إشكاليَّة العنف في التربية ووسائل الإعلام

يعتقد البعض بأن الناس صنفان ، صنف يعتقد بأن الناس يقسمون إلى طيبين وأشرار ، وصنف لا يعتقد بأنهم يقسمون إلى طيبين وأشرار ، وأنا من الصنف الثاني . فقد علمنا الاختصاص بأن الإنسان ذاته يمر بحالات عقلية مختلفة يصل اختلافها أحياناً لدرجة حدوث انقلابات سلوكية متطرفة. ومنها ما يسمى بالنشبة العنفية ( Raptus ) أو ما يسمى بالعامية ب ( ساعة الشيطان ).



وها هي الأحداث تشير إلى ارتفاع نسب الجريمة لدى المرأة في أثناء فترات الحيض. كما تشير الأبحاث إلى اختلافات المزاج وتقلبه لدى الإنسان بحسب أيام الشهر (دورة بيولوجيَّة).

أيضاً تشير الأبحاث نفسها إلى إمكانيَّة إجراء تعديلات سلوكيَّة جذرية لدى أي شخص (عن طريق تعكير إيقاعاته البيولوجيَّة اليوميَّة: مثل حرمانه من النوم أو من الضوء أو من السمع). دون أن ننسى التغيُّرات السلوكيَّة المتطرفة التي تصاحب حالات السكر والإدمان بأنواعه. وإذا كان للتربية دورها في تحديد النمط السلوكي العنيف فإنّ الأخطر مسألة البرمجة العنيفة الاصطناعية. أي التأثير في الأشخاص والجماعات من أجل إساءة استخدامهم واستغلالهم في أعمال عنفيّة.

 

إشكاليَّة العنف في التـربيــة

في محاولته الإجابة عن السؤال الكبير حول إصابة طفل باضطرابٍ ما ونجاة أخوته رأى الباحث "جون أنتوني" أنّ الأطفال يقسمون إلى ثلاثة أنواع:

  1. أطفال يشبهون الدمى البلاستيكية: وهم يقاومون الصدمات ولا يقاومون النار.
  2. أطفال يشبهون الدمى الزجاجية: وهم يقاومون النار ولا يقاومون الصدمات.
  3. أطفاليشبهون الدمى المعدنيَّة: وهم يقاومون النار والصدمات.

 

وهذا التقسيم يقدّم لنا تفسيرات مُتعدِّدة الجوانب حول العدوانية لدى الطفل وحول دور التربية في تنمية أو تهذيب سلوك العنف عند الأفراد.

والواقع أنّ سلوك الطفل محكومٌ بالرغبة الطفلية بالحصول على الاعتراف. فهو إذ يثير البالغ بإقدامه على عمل ما فهو يسعد بغضب البالغ. إذ يحس الطفل بقدرته على إثارة البالغ والتحكُّم بردود فعله. ومن ثَمَّ يرد إلى البالغ قدرته على التحكُّم به أي بالطفل. لذلك فإنّه من المتوقع أن يلجأ الطفل إلى الأذى العنيف لإثبات قدرته إذا كان تأثير محيطه عليه عنيفاً. وإلّا فهو يبحث عن وسائل تأثير أخرى غير عنفيّة.

هذا دون أن نهمل الظروف الخاصة بتربية كلّ طفلٍ على حدة. مثال ذلك الهدوء المبالغ فيه الملاحظ لدى الأطفال الذين يلبسون نظاراتٍ طبيّةً ويخافون عليها من الكسر. ومثل هذا الهدوء قد يخفي عدوانية وميولاتعنفية مختلفة.

وإذا كنا في مجال الحديث عن إشكاليَّة التربية وعلاقتها بالسلوك فإنّنا لا نتجاهل محاولات توظيف السيكولوجيا التربويَّة لإنتاج أطفال مميزين ومتفوقين بل وعباقرة.

 

إشكاليَّة العنف في وســائل الإعـلام

تُعَدُّ وسائل الإعلام المرئيَّة أكثر وسائل الإعلام تأثيراً في الجمهور. ولنبدأ بمثال فيلم "البرتقالة المعدنيَّة" الذي يشرح استخدام التقنيات السيكولوجيَّة لعلاج المجرمين أي لتحويل المجرم إلى إنسانٍ مسالم. فإذا ما تمت مشاهدة الفيلم فإنّ المشاهد يخرج بانطباع مفاده ضرورة الإبقاء على المجرم مجرماً وعدم علاجه، فهذا العلاج وإن كان يقوم الانحراف إلّا أنّه يعتدي على إنسانيَّة الشخص حتى يكاد يفقده إياها. ومن ثم فإنّ العقاب، مهما بلغت قسوته، يبقى أكثر إنسانيَّة من هذا العلاج. هذا الفيلم يختصر تقنيات الحرب الإعلاميَّة النفسيَّة الممارسة راهناً عبر الفضائيات لتحويل المواطن العالمي إلى مواطن صالح على الطريقة الأميركية.

هذا ويقول الباحث الإنجليزي "هال بيكر" المُتخصِّص في غسيل الأدمغة عن طريق التلفزيون (يعمل في مُؤسَّسة تافيستوك بريطانيا). يقول "بيكر" إنّ غسل الأدمغة يجري عن طريق (سوفت باور) (Soft Power) أي قوة الأفكار والصور والتأثيرات التلفزيونية والإلكترونيَّة. وقليلون يعلمون أنّ هذه الطريقة هي ذراع الحرب النفسيَّة لقادة الحكم البريطاني. وأصحاب هذه المُؤسَّسة من أهم المصمّمين، إلى جانب حلفائهم في الولايات المتحدة ودول أخرى. وهم يصرون على ضرورة تحوّل جمهور البشر إلى مدمنين على التلفزيون وابتلاع جرعة يوميَّة من عقاقير غسل الأدمغة.

ويُعرب "بيكر" على غرار المسؤولين في هذه المُؤسَّسة عن اعتزازه بنفسه لأنّه يعرف عقول ضحاياه، ولذلك يطلق عليهم اسم "الساذجين" وفنُّ غسل الأدمغة بوساطة التلفزيون يجري من خلال قوة "الإيحاء" وتلعب قوة اعتياده بشكلٍ تدريجي بعد تواصل الإدمان عليه قابليةٌ لدى الجمهور في تقبُّل ما يعرض من صور وأخيلة كواقع.

فما يوحي به التلفزيون على أنّه "الواقع" يتحوَّل إلى واقعٍ في أذهان المدمنين المتلقين. ويُؤكِّد زميل "بيكر" وهو "فريد" ما يستنتجه المحللون الذين يعدُّون التلفزيون وسيلة لغسل الأدمغة. ويقول "إمري": إنّ التلفزيون بوصفه وسيلة (ميديا) وإعلام يتكوَّن من إشارة رؤيةٍ تبثُّ خمسين إطاراً في الثانية الواحدة وإن افتراضاتنا بالنسبة إلى الطبيعة الجوهرية لهذه الوساطة هي:

  1. أنّ ما يعرض ويظهر في التلفزيون ينبه المشاهد ويتسبَّب بتثبيت العادة في الرد والتجاوب معه.
  2. عندما يكون المشاهد في غمرة الاستمرار "بالتفرُّج" على التلفزيون فمن غير المحتمل ألّا يتأثّر بما يفعله ويراه وهذا يعني أنّه يكون على درايةٍ، لكنه لا يدري أنّه يدري.

 

الطفل والتلفزيون

لقد بات التلفزيون عنصراً شديد التأثير في تحديد عناصر خيال الطفل وقيمه حيث إنّ الوالدان لا يستطيعان إبعاد تأثير التلفزيون عن أطفالهم لأنّهم بأنفسهم أصبحوا متعلقين بهذا الصندوق المشع بالصور الذي يمضي أبناؤهم أوقاتاً أكثر ممّا يمضي الوالدان. وإنّ الدراسات تشير إلى أن معظم برامج التلفزيون يسهل استيعابها حتى على التلاميذ في الصف الخامس في الولايات المتحدة والوالدان يعاد تشكيلهما عبر شاشة التلفزيون وهما يجلسان أمامها ساعاتٍ كثيرة. ويقول "إمري" و "بيكر" إنّ الأميركيين كفّوا عن التفكير حقاً وكل ما لديهم هو آراء ومشاعر. فالتلفزيون يبني لهم الرأي ثم يجعله قابلاً للاستمرار الرسمي، والسياسة هي أوضح الأدلة على دور التلفزيون. فهو الذي يقول للأميركيين رأيهم في رجال السياسة ويقيد هذه العمليَّة كما يرغب أصحاب القنوات التلفزيونية الذين يسيطرون من خلال أموالهم على شبكات من قنوات تلفزيون (الكابل) والفضائيات. وتقوم هذه الشبكات بإبلاغ الناس عمّا قيل وعمّا تفترضه مهماً وكل ما يخالف سياستها ورغبات أصحابها يجري عدم التطرق إليه.

فهي التي تخبر الناس عمّن سوف يفوز وعمّن لا يستطيع الفوز وتبرز برامج الحملات الانتخابية حرية الأميركي في الاختيار، في حين أنّ هذا المواطن أسير التلفزيون لا حرية حقيقيَّة له ولا اختيار حقيقي له. هكذا تحدث عمليَّة غسل الدماغ التي يتعرض لها الأميركي والتي تدعوني إلى الطلب من كل من أدرك ما يحمله هذا المقال من معنى الكف عن تشغيل جهاز التلفزيون.

ونخلص من هذه التأثيرات الإعلاميَّة في الوعي إلى التذكير بكتاب الحرب الافتراضية لمؤلفيه "كوهين" و "روزفلت". وخلاصة فكرته أنّ الحروب القادمة لن تكون عسكرية وإنّما إعلاميَّة. وأنّ المنتصر في الحرب هو الذي يسيطر على الإعلام وهو الذي يبلغ الجمهور الرواية الفضلى. إنّه عنفٌ من نوعٍ جديدٍ حيث يتم تجاهل مبدأ "الاعتراف" بما ينطوي عليه من مفاهيم كرامة الشعوب وحريتها. إذ تنتزع الكرامة والحريات عن طريق عنفٍ جديدٍ غير مؤلم ولكنه شديدُ الأذية، إنه العنف الإعلامي.

 

حياتنا النفسيَّة

الدكتور محمد أحمد النابلسي

أستاذ الطب النفسي -لبنان

 

المراجع للتعمق

  • الثقافة النفسيَّة (مجلة) لقاء مع واضع نظريَّة القدر في التحليل النفسي "ليوبولد سنودي". المجلد الأول العدد الرابع (1990).
  • الثقافة النفسيَّة (مجلة) لقاء مع البروفسورة إليزابيث موسون، المجلد الأول (1990).
  • الثقافة النفسيَّة (مجلة) الأسس الإحيائية للسلوك (ملف) العدد الثالث عشر المجلد الرابع (1994).
  • الثقافة النفسيَّة (مجلة) تربية الأطفال العباقرة المجلد الأول العدد الأول (1990).
  • الثقافة النفسيَّة (مجلة) اختبار سنودي المجلد السابع. العدد السادس والعشرين (1996).
  • الثقافة النفسيَّة (مجلة) السياسة وأخلاقيات الطب النفسي المجلد الخامس العدد العشرين (1992).
  • محمد احمد النابلسي: الطب النفسي ودوره في التربية، دار النهضة العربيَّة بيروت (1989).

الموسوعة العربيَّة لتطوير الذات