أهمية المصداقية في شخصية المربي

تُعَدُّ(القدوة) هي الأساس الأول من أسس التربية السليمة، وذلك لوجود تلك الغريزة الفطريَّة الملّحة في كيان الإنسان والّتي تدفعه إلى التقليد والمحاكاة، خاصة الأطفال الصغار، فهم أكثر تأثراً بالقدوة إذ يعتقد الطفل في سنواته الأولى أن كل ما يفعله الكبار صحيح، وأن آباءهم أكمل الناس وأفضلهم، لهذا فهم يقلدونهم ويقتدون بهم تلقائياً في كل شيء، فالطفل يتأثر بنا ويقلد طريقتنا في معاملاتنا وعلاقتنا بالجيران، وحديثنا عن زملائنا في العمل، دون أن نشعر غالباً بهذا الأمر، ومن ثم فهو يحمل اتجاهاتنا النفسيَّة نفسها تجاه الآخرين، وإذا علمنا ذلك تبين لنا حساسية مركز القدوة ومقدار المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق المربين والتي يسألهم الله تعالى عنها يوم القيامة.



استقامة الفعل مع القول والثبات على المبدأ أقوى وأسرع سبل التربية الناجحة: فإذا كان المربى هو المثال الحي المرتقي في درجات الكمال فإنه يثير في نفس المتربي قدراً كبيراً من الإعجاب والتقدير والمحبة، ومن ثم يتطلع إلى محاكاته والاقتداء به، بما تولد لديه من حوافز قويَّة تُحفِّزه إلى أن يعمل مثله، حتى يحتل درجة الكمال التي رآها متمثلة فيه.

إن القوة التربويَّة الهائلة في القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل العالية، ترجع إلى أنها تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة، التي هي في متناول القدرات الإنسانيَّة، وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال. وإن كانت مستويات فهم الكلام عند الناس تتفاوت لكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين المُجرَّدة لمثال حي. فإن ذلك أيسر في إيصال المعاني التي يريد المربى(القدوة) إيصالها إلى المتربي (للمقتدى).


الحذر من التناقض بين القول والعمل:
فإذا أردنا أن ننشئ طفلاً صالحاً فلابد من أن تسلم تصرُّفاتنا من كل شائبة لا نريدها له، ومن كل تناقض بين القيم التي نلقنه إياها وبين ما يراه في واقعنا العملي من سلوكيات تخالف ما ندعوه إليه  إن التناقض والازدواجية في شخصيَّة المربي هو قاصمة الظهر التي تهدم معالم القدوة الحسنة فيه وتسلبه اسمه ووظيفته، فلا يصلح أن يقوم بهذه المهمة الجليلة التي اختص الله بها أشرف الناس، الأنبياء والرسل ثم العلماء والدعاة إلى الله من بعدهم ثم عهد بها إلى أقرب الناس وأرحمهم بالأبناء، إلى الوالدين اللذين يرى فيهما الابن المثال الكامل في كل شيء وذلك لفرط المحبة الفطريَّة ولشدة القرب ودوام الاتصال بينه وبينهم، فإذا وقع المربي في التناقض والازدواجية ولم يكن عمله مصدقاً لقوله، واستمر يربي وهو على تلك الحال، قدّم لنا أشخاصاً متذبذبين لا يعرفون الثبات على المبدأ، يحسنون الكلام الأجوف الخالي من العمل والتطبيق، وذلك هو بعينه المقت الكبير الذي حذرنا الله تعالى من الوقوع فيه.

ولذلك عني السلف رضي الله عنهم أشد العناية بالإشراف على من يقومون بتربية أبنائهم وطفقوا يُؤكِّدون لهم هذا المعنى، يروى عن الشافعي، رحمه الله، أنه قال لعبد الصمد مؤدب أبناء الخليفة هارون الرشيد: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تكرهه".


والأعمال دائماً أعلى صوتاً من الأقوال:
إن تأثير المواقف العمليَّة في نفس المتربي أبلغ بكثير من الحديث والخطب والعظات، لأنها تكتسب برهان صدقها من حدوثها وتحققها، لذلك كان تفاعل المربي مع القيم التربويَّة التي يدعو إليها والتزامه إيّاها، أجدى من كثير من الكلام عن أهميتها والدعوة إليها شفهياً، من غير أن يصاحب ذلك عمل في واقع الأمر، فالتزام المربي أمام الطفل الصدق مثلاً في كل تصرُّفاته فيما يعود عليه بالمنفعة أو ما يعود عليه بالضرر، أجدى لدى الطفل من حديث المربي المتكرر عن أهمية الصدق وقيمته وهو لا يلتزمه عملياً في أقواله.

إذاً فليكن سلوك المربي هو أكبر وأقوى دليل على صدق ما يدعو إليه، فعندما أخبرنا الله عزّ وجلّ أنه جعل لنا في رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة حسنة ليكون نموذجاً عملياً نقتدي به في سائر حياتنا، لم يجعل الله منه لساناً طيباً فحسب بل جعله خُلقاً عظيماً يمشي بين الناس، وليس أصدق في تصوير ذلك من عائشة رضي الله عنها إذ سُئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن) فكلمات الوحي التي يتلوها على الناس يبلغهم بها عن ربه عزّ وجلّ، هي صور سلوكه بينهم وسيرته فيهم، فإذا أمرهم بالعدل كان خير من عدل، وإذا نهاهم عن الفحشاء والمنكر كان المثل الأعلى في البعد عنهما وإذا طالبهم بصلة الرحم، كان أوصل الناس لرحمه وإذا حضّهم على المشورة، لم يكن أحد أكثر منه مشاورة لأصحابه.

 

الموسوعة العربيَّة لتطوير الذات