أهم دروس التجربة العالميَّة فى تطوير التعليم

يمكن أن نخلص من مراجعة مسيرة التعليم، فى العالم بوجهٍ عام، وفى البلدان الناميَّة بوجهٍ خاص، إلى أمورٍ أربعةٍ أساسيَّة:



أولها: أن أزمة التعليم أزمة عالميَّة، وإن اتخذت فى العالم المُتقدِّم أبعاداً تختلف عن أبعادها فى العالم النامي.

وثانيها: أن النظام العالمي الحالي الذي قوامه العولمة، وحرية السوق الاقتصاديَّة (ولاسيما الماليَّة)، وإهمال الهويات الثقافيَّة وما تشتمل عليه من قيمٍ ومواقف لابد من التعامل معها لاستخراج فضائلها ولتطويرها وتجديدها، نظامٌ يملي على نظم التعليم فى العالم كله مطالب جديدة، ويفرض عليها أن تلجأ إلى جدائد مبتكرة، ما تزال بذورها فى طور التكوين.

وثالثها: حقيقةٌ بديهيَّةٌ، كثيراً ما تنسى، وهي أن النسق التعليمى جزءٌ من نسقٍ اقتصاديٍ واجتماعيٍ وثقافيٍ شامل، وأن التصدى لمشكلاته لا تكون إلَّا من خلال شبكةٍ تعليميَّة واسعةٍ متفاعلةٍ مع ذلك النظام الشامل. وهذه الحقيقة البديهيَّة تعني الكثير فى هذا العصر فائق السرعة فى تطوُّره وفى تجدُّد ملامحه وسماته، وفى تشابك مشكلاته الاقتصاديَّة والماليَّة والإعلاميَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والعلميَّة والتقانية.

ورابعها: ولعله أهمها، هو أن النظم التعليميَّة، فى مثل هذا العالم دائم التغيُّر، ينبغي لها أن تتصف أولاً وقبل كل شيء بالمرونة. فالمرونة فى بنية النظام التعليمي، وفى مساراته والانتقال بين فروعه، وفى مناهجه وتخصصاته، وفى طلابه وأعمار المنتسبين إليه، وفي سنوات الدراسة فيه، وفى وسائل تقويمه، وغيرها، مطلب ضروري لمواجهة الحاجات المُتجدِّدة لسوق العمل ولمشكلات الاقتصاد ومطالب الحياة الاجتماعيَّة والثقافيَّة. والنظام التعليمي الثابت الجامد نظامٌ لابد له من أن يأخذ طريقه إلى الزوال، إن لم يمت فعلاً فى كثير من بلدان العالم.

أهم منطلقات التجربة العالميَّة فى تجديد التعليم:

يمكن أن نوجز أهم منطلقات التجربة التعليميَّة العالميَّة فى مجال التجديد التعليمي فى أربعة أمور أساسيَّة.

  • التعليم المستمر طوال الحياة:
    إن التعليم أيام ازدهار الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة كان يستهدف تربيةً مستمرةً، من المهد إلى اللحد، فضلاً عن أنه كان تعليماً يتم فى أي مكان. وقد سئل أحد علماء السلف: ما حدُّ العلم؟ فأجاب "الحياة".
    ويتفرع عن منطلق التعليم المستمر أمران:
    • المزاوجة بين التعليم النظامي والتعليم غير النظامي بأشكاله المختلفة عن طريق مراكز التدريب، والتعليم العارض الذي يتم عن طريق مُؤسَّسات الثقافة والإعلام، وفى الأسرة ودور العبادة والجمعيات والروابط وغيرها.
    • ضرورة التدريب وتجديد التدريب بل وإعادة التدريب، تلبيةً لحاجات المجتمع المتغيرة ولحاجات مواقع العمل (الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة) بوجهٍ خاص.

ومادام التدريب وتجديده واستبداله وإكماله أموراً ممكنة، ومادامت المعارف والمهارات التى يحصل عليها الذين يرتادون المدارس النظاميَّة بداية للتكوين والإعداد وليست نهاية لهما، فينبغى لبنية المدرسة النظاميَّة ومناهجها أن تتغير، بحيث تركز المدرسة، ولاسيما فى مرحلة التعليم الأساسي، على امتلاك المعلومات والقدرات الأساسيَّة.

  • التعلُّم الذاتي:
    ويعني ذلك أمرين:
    • التركيز على المُتعلِّم، والاهتمام بدوره الفعَّال وبمشاركته المباشرة فى التعليم، تحوّل دوره من مستمع سلبي إلى مشارك وباحث وناقد ومصدر أساسي من مصادر المعرفة، بل حتى إلى مقوّم أساسي لنتاج جهده.
    • ذيوع استعمال التقانات التعليميَّة الحديثة، بأشكالها العديدة والمُتطوِّرة، الأمر الذي يسّر، بل أملى، أن يعلّم المُتعلِّم نفسه بنفسه، خاصة عن طريق الحاسوب. والتقانات الحديثة تيسّر التعلُّم، وتمكن من التغلُّب على معيقات انتشار التعليم، وتولّد لدى الطلاب بواعث إيجابيَّة ورغبة ذاتيَّة فى التعلُّم. إلا أنه يتعين أن ندرك هذه التقنيات ونستوعبها، وأن نقف منها خاصة فيما يتصل بمضامينها موقفاً انتقائياً واعياً.

وفى وسع القدرة على التعلُّم الذاتي أن تخفف الأعباء عن المدرسة النظاميَّة، وأن تجعل الاستمرار فى الدراسة والتعلُّم ممكناً حتى حين يغادر الشخص المدرسة (قبل أو بعد الانتهاء من مرحلة دراسيَّة معينة).

  • مرونة النظام التعليمي:
    شرط لابد منه لمواجهة التغيُّرات العالميَّة الضخمة، وبعضها مفاجئ، فالمستقبل صعب التحديد. ولكن بوجه عام، لم يعد التعلُّم يقتصر على سنوات معينة من بدايات العمر، ولم يعد محصوراً داخل جدران مدرسة أو جامعة، ولم يعد مقترناً بكمّ من المعلومات والمهارات يتقنها الفرد في برامج تعليميَّة مقننة ويستخدمها بقية حياته.
    وتمتد المرونة لتشمل كامل بنية نسق التعليم، عدد سنوات الدراسة، ومحتواها، وانفتاح المدرسة دوماً على عالم العمل وحاجاته، وتنويع التعليم وتشعيبه، وتيسير الانتقال بين المراحل والأنواع التعليميَّة، والقضاء على الحواجز بين التعليم النظامي وغير النظامي، والتكامل والتناوب بين الدراسة والعمل.
  • المجتمع المُتعلِّم، المُعلِّم:
    بمعنى أن يكون كل فرد فى المجتمع مُتعلِّماً وساعياً إلى فضل من المعرفة، وأن يكون فى الوقت نفسه مُعلِّماً لسواه. وهذا يعني فيما يعني أن تكون مُؤسَّسات المجتمع كلها، ولاسيما مُؤسَّسات العمل والإنتاج، مُؤسَّسات تدريبيَّة وتعليميَّة فى الوقت نفسه. كما يعني أيضاً وبوجه خاص المشاركة الفاعلة من المجتمع كله فى عمليَّة التعليم. إنه يعني جعل التعليم/التعلُّم شأناً مجتمعياً شاملاً.

 التوجهات الاستراتيجيَّة:
والتوجهات الاستراتيجيَّة هى مجموعة من المبادئ الحاكمة لعمليَّة إنفاذ مشروع معين، تعد مجتمعة لازمة لتحقيق غاياته. ويقدم هذا القسم حزمة أساسيَّة من التوجهات الاستراتيجيَّة لتطوير التعليم كأساس لبناء رأس مال بشريٍ متنامٍ، وراقي النوعيَّة، فى البلدان العربيَّة.
والمهم فى بناء الرؤى المستقبليَّة هو نظم مجمل عناصرها فى شمول واتساق وتماسك. ويعني ذلك أن تقوم درجة حرجة من التكامل بين عناصر "الرؤيا" تنفي إمكانيَّة تقسيم التصور داخلياً إلى أجزاء منبتة الصلة فيما بينها. لذلك ينبغي لمحاور التصور المطروح أن تؤخذ كحزمةٍ كليةٍ عبر تقسيمات الموضوع. وعلى وجه الخصوص، لا يتصور إسقاط عناصر جوهرية فى هذه الحزمة دون تقليلٍ، أو إهدار، إمكانيَّة بلوغ الغايات المبتغاة.

 

التوجُّه الأول:

بناء رأس المال البشري راقي النوعيَّة:
ليس من قبيل المغالاة القول إنّه في منظورٍ مستقبل التقدُّم فى البلدان العربيَّة، لا توجد غايةٌ تعدّل تطوير نسق التعليم بحيث يؤدي إلى إكساب، واكتساب البشر للمعارف والقدرات والتوجهات التي تتناسب ومقتضيات القرن الحادي والعشرين، والذي يؤذن بقسمةٍ جديدةٍ بين البشر على هذا الكوكب حسب مدى تملكهم لناصية المعرفة والتقانة الأحدث من ناحيةٍ أخرى.
ويتبلور الطموح إلى النهضة في الوطن العربي، في مجال بناء رأس المال البشري راقي النوعيَّة، في غايات ثلاث:

  • النشر الكامل للتعليم الأساسي، مع إطالة مدّته الإلزامية إلى عشرِ سنواتٍ على الأقل، وتوسعة نطاق التعليم بعد الأساسي باطّراد.
  • استحداث نسقٍ مؤسّسيٍّ لتعليم الكبار، مستمرٍ مدى الحياة، فائقُ المرونة ودائب التطوُّر، من أجل مكافحةٍ فعَّالةٍ للأميّة بصنوفها من ناحيةٍ، وإعمالاً لمبدأ التعلُّم المستمر مدى الحياة لخريجي النظام التعليمي من ناحيةٍ أخرى.
  • إيجاد وسائل داخل جميع مراحل التعليم تكفل ترقية نوعيَّة التعليم، بما يؤدي إلى تبلور مسارٍ للحداثة والتميُّز والإبداع بوصفها مدخلاً للإمساك بناصية المعرفة والتقانة الأحدث فى المجتمعات العربيَّة.

وتتضمَّن الوسائل الفعَّالة لتعميم التعليم الأساسي أن يكون شاملاً بحق، ومجاناً بالكامل. بل تحتم الآثار السلبيَّة لانتشار الفقر في البلدان العربيَّة العمل على توفير الدعم المالي لتعليم الأطفال فى الأسر الفقيرة، وخاصةً البنات، على أن يشمل ذلك التكلفة المباشرة بالإضافة إلى تكلفة الفرصة البديلة للتعليم عند الحاجة (ما يوازي عائد عمل الأطفال في الأسر المحتاجة)، ولتوفير التغذية المجانية والرعاية الصحيَّة في مدارس التعليم الأساسي.

ولكن يبقى تحدي ترقية النوعيَّة أعصى. ونتصور أنّ هناك سماتٍ أربعاً جوهرية لنوعيَّة التعليم المؤسس للتقدُّم:

  • تأسيس العقليَّة النقديَّة.
  • تكوين الملكات الابتكاريَّة.
  • بناء التوجهات الاجتماعيَّة المواتية، مثل الاجتهاد، والكفاءة، والدقة، والانضباط، والمبادأة، والعمل الجماعي، وخدمة الجماعة، والعدالة، والديمقراطيَّة.
  • تأمين التعلُّم الذاتي، والمستمر، بوصفه سبيلاً لتملك معرفة واسعة، وقدرات وتوجهات بناءة، ومتناميَّة.

ولا مناص، في ضوء المقترحات السابقة، من أن توفر البلدان العربيَّة موارد أضخم للتعليم وزيادة كفاءة استغلالها في البلدان العربيَّة. ويوجد مجالٌ واسعٌ لرفع كفاءة الموارد المُخصَّصة للتعليم حالياً، ولزيادة الموارد الماليَّة المُخصَّصة للتعليم، وحتى لإعادة تخصيص الموارد الكلية المتاحة، لإعطاء تكوين رأس المال البشرى الراقي الأولوية الحاسمة التي يستحق في تخليق مستقبلٍ زاهرٍ للأمة العربيَّة، على أوجه إنفاق أخرى.

وفيما يتّصل بزيادة الموارد الماليَّة للتعليم، تبني الأردن تجربةً مفيدةً في مضمار توفير الموارد الماليَّة للتعليم العالي، تشمل اقتطاع نذرٍ يسيرٍ من الرسوم الجمركية، وفرض رسومٍ ضئيلةٍ على أرباح الشركات، ومعاملات الهاتف، ورخص الأبنية، ورخص المهن، وعقود الإيجار، والمعاملات القانونية، وإيرادات الغرف التجارية والنقابات، ومعاملات الأراضي، والعطاءات الرسميَّة.

والواقع أنّه بسبب ترافق انتشار الفقر بين العامة واستشراء الثراء بين قلة في البلدان العربيَّة، ربّما أصبح من الضروري استهداف القادرين لزيادة مساهمتهم في تمويل التعليم، خاصة العالي. سواءٌ من خلال اقتضاء رسوم تعليم عالية من أبناء القادرين (وليس مجرد إعفاء المتفوقين من غير القادرين) أو تشجيع الأفراد الموسرين، ومشروعات الأعمال، على منح الهبات والوقفات لمُؤسَّسات التعليم (من خلال إعفاءات ضريبية مغرية). والواقع أنّ لقطاع الأعمال، بوجهٍ خاص، مصلحةٌ ذاتيَّة في دعم التعليم لضمان توافر المهارات والكفاءات البشريَّة اللازمة لتحسين إنتاجيته، وفي النهاية، لتعظيم أرباحه (يعي قطاع الأعمال هذه الحقيقة في المجتمعات الرأسماليَّة الناضجة ويترجمها في صورة دعمٍ ضخمٍ لكل أنواع التعليم والبحث، خاصةً في مُؤسَّسات التعليم العالي الأعلى تكلفةً).

ويثار أحياناً أنّ البلدان العربيَّة، خاصةً الأفقر منها، لا تطيق تكلفة النمط التعليمي السائد في البلدان المصنعة والقائم على الإنفاق الكبير. وهذا صحيح، وليس مستحسناً على الإطلاق مجرد تقليد النمط الغربي للتعليم.

ولا جدال في أنّ مجرد إغراق أزمة التعليم في البلدان العربيَّة بالموارد الماليَّة لن يكفي لحلها. فالسياسات المناسبة، والسياق العام المواتي، لا يقُلان أهميةً عن حجم التمويل. والحق أنّ زيادة التمويل، في غياب السياسات المناسبة والسياق العام المؤازر، لا تضمن تكوين رأس المال البشري راقي النوعيَّة، كما تشهد خبرة بعض البلدان العربيَّة الأغنى. ويمكن القول إنّ التحدي المستقبلي الضخم الذي تتصدى له البلدان العربيَّة هو التوصُّل إلى حلولٍ ابتكاريَّة عربيَّة تؤدي إلى تطوير نظام تعليمي بديل يمكن أن ينتج تعليماً أكثر كفاءة، وأرقى نوعيَّة، وبتكلفةٍ ماديَّة ملائمة. وهذا مجالٌ رحبٌ لاجتهاد المجتهدين.

على سبيل المثال، يَعِد أسلوب "مدارس المجتمع" في مصر بحلول فعَّالة لمشاكل الالتحاق والنوعيَّة. ومدارس المجتمع مشروعٌ تجريبي مشترك بين وزارة التعليم واليونيسف في مصر، ويتمُّ تنفيذه من خلال مشاركة المُنظَّمات غير الحكوميَّة المحلية والمجتمعات المعنية. ويستهدف المشروع توفير تعليم أساسي، راقي النوعيَّة، ومناصرٍ للفتيات، وحساسٌ لمطالب المجتمع، في أكثر المناطق حرماناً في ريف مصر. ويقوم المشروع على مشاركةٍ فعَّالةٍ من المجتمع، فيقدم المجتمع المحلي مكاناً للمدرسة، وينشئ لجنةً تساهم في إدارة المدرسة. ولا تشترط المدرسة زياً ولا يدفع التلاميذ رسوماً. وتعطي البنات أولويّةً في الالتحاق بدون استبعاد الصبية. وميسرات التعلُّم الذاتي، بدلاً من المدرسين، هنّ خريجات من المستوى المتوسط من التعليم على الأقل، من أهالي المجتمع الذي تقوم به المدرسة، أو آخر قريب. وتعطي الميسرات تدريباً مُكثَّفاً، قبل بدء العمل وطوال الخدمة. وتستخدم مناهج وزارة التعليم، ولكن تطبق أساليب التعليم المتركز حول التلاميذ بشكلٍ صارمٍ من خلال ترتيب الصفوف، وأساليب التعليم، ومشاركة التلاميذ في التخطيط لنشاطات المدرسة وتقويمها. وتعد نتائج المشروع إيجابيَّة للغاية سواءٌ بدلالة التحسُّن في الالتحاق، أو التحصيل المعرفي، أو تطور شخصيات التلاميذ.

 

لكن يتعيَّن التنبه إلى أنّ التعليم الجيد، خاصةً في المراحل الأعلى، هو تعليم مُكلف. ولا ريب في أنّ رفع تحدي تطوير التعليم في البلدان العربيَّة إلى المستوى القومي، الذي سيناقش فيما يأتي، يخفف كثيراً من قيد الموارد، وهو أكثر إحكاماً على المستوى القطري.

 

التوجُّه الثاني:

صياغة علاقة تضافر قويَّة بين التعليم والمنظومة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة
تكرّرت الإشارة فيما سبق إلى التشابك الوثيق بين حال التعليم وبين السياق الاجتماعي الاقتصادي العام في البلدان العربيَّة، ومغزى هذا التشابك بالنسبة إلى التخطيط لتطوير رأس المال البشري. وليس من أملٍ يُرجى من استمرار النظرة القطاعية التي تضيّق من مجال الاهتمام بالتعليم وجهود تطويره. فالتعليم، في نهاية المطاف، هو جهدٌ مجتمعيٌ يقوم على تفاعل مختلف القوى النشطة في المجتمع، ولا يقتصر على عمل وزارةٍ أو أكثر.
وبعبارةٍ أخرى، يتعين أن يصبح التعليم همّاً للمجتمع كله، لمُؤسَّسات الحكومة وأجهزة الدولة كافة، وقطّاع الأعمال والمجتمع المدني، خاصةً على مستوى المجتمعات المحلية مُتضافرة.
إنّ التضافر المجتمعي الموصوف يضمن تواؤم نسق التعليم، مدخلات وبنية ومخرجات، مع حاجات تنمية الإنتاج وتقدُّم المجتمع.

فبالإضافة إلى إيجاد حلولٍ كفءٍ لمشكلات تمويل التعليم مثلاً، يمكن الاعتماد على هذه الشّراكة المجتمعيَّة، خاصةً إذا قادتها الدولة بفعاليَّة، في مواجهة التأزُّم الهيكلي للعلاقة بين نسق التعليم وحاجات عالم العمل والإنتاج، في البلدان العربيَّة. فالأسواق، وبوجهٍ خاص أسواق العمل، لمّا تتطوَّر بعد إلى أسواق تنافسية كفء في البلدان العربيَّة. بل مازالت تشكو الكثير من التشوه. وعليه لا يمكن الاعتماد على الأسواق في إحداث التواؤم بين نسقي التعليم والعمل بكفاءة وبتكلفة إجماليَّة مقبولة. والواقع أنّه حتى في الاقتصادات الرأسماليَّة الناضجة ينطوي الاعتماد لإحداث هذا التواؤم على تكلفة اجتماعيَّة كبيرة لا تطيقها البلدان الناميَّة، الأمر الذي يستلزم زيادة كفاءة التخطيط والجهود التعاونيَّة بين قطاعات المجتمع للمواءمة بين نسقى التعليم والعمل في البلدان العربيَّة.
ويُثار، في سياق سياسات وبرامج "التكيُّف الهيكلي"، في البلدان العربيَّة مسألة تشجيع القطاع الخاص على الدخول في ميدان التعليم.

ولا ريب في أنّ تحسين تراكم رأس المال البشري يمكن أن يستفيد من وجود نظام تعليمي وطني وقوي، غير حكومي، ولكن لا يستهدف الرّبح، بوصفه مُنافساً للتعليم الحكومي، مع وجود ضمانات قويَّة للنوعيَّة من خلال نسق محكم لضبط الجودة. وإذا أمكن نفخ الروح في العمل الأهلي الطوعي من خلال المُنظَّمات غير الحكوميَّة، فقد تنفسح فرصة طيبة في هذا الميدان.

ولكن، في ظل السياق المُؤسَّساتي الحالي، يستحيل أن يوفر حافز الربح أساساً للوفاء بحاجات الفئات الاجتماعيَّة الضعيفة من التعليم، وتضم غالبية العرب، والتي يتوقع أن يزداد حرمانها منه في سياق التعليم الخاص. فلا يحمل تعليم أبناء الفقراء هامش ربح يغري في الاستثمار الخاص. والأقرب، وفي الخبرة الفعلية حتى الآن دليلٌ قوي، على أن يتوافّر رأس المال الخاص على تقديم تعليم مدلل لأبناء الأغنياء. ولن يقدم حلاً لحرمان جموع أبناء الفقراء أن "يُسمح" لنسبةٍ قليلةٍ منهم بالالتحاق بمدارس الأثرياء يعانون فيها عزلة اجتماعيَّة وتعليميَّة قاسية. تحت هذه الظروف يصبح التعليم وسيلة لتكريس الفوارق الاجتماعيَّة، بدلاً من دوره التنموي المنشود في مساعدة الفقراء على التغلُّب على ضعفهم وتمتين اللحمة الوطنية، في بلدانٍ تعاني من استشراء داء التفرقة. وإذا أقام مستثمرون ذوو سطوة قطاعاً خاصاً، يستهدف الربح، في ميدان التعليم، فقد يستحيل أيضاً أن تمارس إدارة حكوميَّة غيرُ كفءٍ وحريصةٍ على اجتذاب الاستثمار الخاص، ضبطاً محكماً لمستوى جودة التعليم.

 

التوجه الثالث:

إقامة برنامج لتطوير التعليم على الصعيد العربي
هناك حاجةٌ ماسّةٌ إلى قيام برنامج عمل قصدي لتطوير التعليم في البلدان العربيَّة، يقومُ على أساس برامج قطرية ولكن في إطار تعاون عربيٍّ فعَّال.
إنّ بناء رأس المال البشري راقي النوعيَّة هو تحدّي المستقبل في البلدان العربيَّة مُجتمعة. ولم يُعد التطوُّر في السياق القطري المنفرد، في هذا الميدان في عموم الوطن العربي كافياً. لقد حقق التطوُّر القَطري ما يمكن تحقيقه من توسعٍ كبيرٍ في الانتشار الكمّي للتعليم الأساسي، خاصّةً في البلدان العربيَّة الأغنى، محدودة السُكّان. بينما يبقى تحدّي الكم كبيراً في البلدان العربيَّة الفقيرة، خاصّة في المراحل الأعلى. ويلاحظ أنّ القضاء على الجيوب الأخيرة للاستبعاد من التعليم أصعب من الإنجازات الأولى في نشر التعليم. وتُشكّل البيئات الرعوية والصحراوية تحدياً خاصاً في هذا الميدان. كذلك أتى التطوُّر السابق بمشكلات تدنّي النوعيَّة التي تعانيها البلدان العربيَّة الغنية والفقيرة على حدٍّ سواء. وتمثل ترقية النوعيَّة تحدياً أكبر من نشر التعليم، ولكنه تحد من نوع مختلف.

ومن المُتّفق عليه أنّ التعاون العربي الفعَّال شرطٌ جوهريٌّ للتنمية الجادة في الوطن العربي. ويصحُّ هذا بشكلٍ واضحٍ في مجال تنمية رأس المال البشري عامة، وفي حقل التعليم خاصة، نتيجة لتفاوت الإمكانات البشريَّة بين الأقطار العربيَّة بشدة، بحيث يصعب على أيّ قطرٍ عربيٍّ، منفرداً، تحقيق إنجازٍ ملموسٍ في نشر التعليم وترقية نوعيته. وقد ترتب على هذه الحقيقة قيام تعاونٍ عربيٍّ كبيرٍ في مجال التعليم خلال عدة عقود وإن لم يستهدف بالضرورة خدمة أهداف الأمة مجتمعة. كما أنّ نتيجة هذا التعاون، حتى الآن، أقلُّ بكثيرٍ من المرغوب فيه. وكما اتّضح عند مناقشة السياق الإقليمي للتربية، تفرض المقاومة الفاعلة لإسرائيل، والقوى الداعمة لها، تضافراً وثيقاً في الجهود العربيَّة لبناء القدرات البشريَّة والتقنيَّة. وتجدر الإشارة، نهاية، إلى أنّ التعاون العربي في مجال التعليم يمكن أن يكون عامل صهر اجتماعي يُساعد على قيام أشكال أكثر رقياً من التعاون العربي في المستقبل.

لقد بات تطوير التعليم في مجمل البلدان العربيَّة، بما يُسهم في تفادي كارثة الانعزال عن المشاركة الفاعلة في عالم القرن الحادي والعشرين، يتطلَّب قيام سلطة تعليميَّة فوق قطريّة وفعَّالة على الصعيد العربي. وبقدر ما تقترب الدول العربيَّة من بناء هذه السلطة سيكتب لها أن تُقيل مجتمعاتها من أزمتها التنموية الحاليَّة، وأن تشارك، من موضع قدرة، في صنع العالم الجديد.
وليس بكثيرٍ على سبيل المثال، أن يصبح تطوير التعليم في الوطن العربي بنداً جوهرياً، ودائماً، على جدول أعمال مؤتمرات القمة العربيَّة. ومازال المجال يُعدُّ فسيحاً لإنشاء مُؤسَّسات قوميَّة، حكوميَّة وأهليَّة، ولتدعيم المُؤسَّسات القائمة، في ميدان التعليم، ولتوجيه مُؤسَّسات تنموية أخرى قائمة لأن تهتم جدياً بتطوير التعليم. فالميدان رحب، والتحدّي هائل، والجهد المبذول حتى الآن أقل من جُهد المقل.

وتتمثّل الغاية من برنامج عربي لتطوير التعليم في تضييق الفجوة في المعارف والقدرات والتوجهات بين البلدان العربيَّة وتلك المُتقدِّمة، إلى الحدّ الذي يمكّن العرب، ابتداء، من المتابعة النشطة، واسعة النطاق والنقديَّة، لتطور المعرفة والتقانة في العالم، واستخدامها بكفاءة، ثم من المشاركة الفاعلة في تطوُّر المعرفة والتقانة في منظور خصوصيَّة المسار التنموي العربي.

وتُنال هذه الغاية من خلال هدفين: العمل على نشر التعليم الأساسي نشراً كاملاً بين أطفال العرب جميعاً، في أفق زمني مُحدَّد وقصير، والتوسُّع المطرد في نطاق مراحل التعليم بعد الأساسي، أولاً، وعلى تحقيق حد أدنى مقبول لنوعيَّة التعليم، ثم ترقيتها باطراد، في جميع المراحل وفي عموم الوطن العربي، ثانياً.

ويُقترح أن يتكوَّن البرنامج ذاته من مجموعة من الوسائل الكفيلة بتحقيق الأهداف المبتغاة في آفاقٍ زمنيَّة معينة. وأن تنتظم الوسائل حول محاور ثلاثة، واحدٌ بحثي وتقويمي، والثاني تخطيطي، والثالث ترويجي وتمويلي، تتضافر لضمان تحقق الغاية من البرنامج، من خلال تعظيم التعاون العربي والاستفادة من إمكانات التعاون الدّولي.

ويُعنى المحور البحثي التقويمي بدراسة تطوّر واقع التعليم في البلدان العربيَّة، وعلى وجه الخصوص تقويم الناتج الحقيقي للتعليم من حيث التوجهات والمعارف والقدرات التي يحصل عليها الخرّيجون. ونرى أنّ هذا التقويم يجب أن يحتل أولويّة مُتقدِّمة في أنشطة البرنامج، خاصة في مراحله الأولى. فمن ناحية نعتقد أن نتائج مثل هذا التقويم ستعطي دفعةً كبيرةً لجهود تطوير التعليم في الوطن العربي عامة. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ النتائج المتوقعة من التقويم يمكن أن تشكّل أساساً متيناً لعقد العزم على أن يؤدي البرنامج المقترح دوراً جوهرياً في مجال تطوير التعليم.

وإضافةً إلى ما سبق، يتسع المحور البحثي لتحليل العوامل المؤثرة في الناتج التعليمي في المجتمعات العربيَّة، ولدراسة محاولات تطوير التعليم في الوطن العربي والتّجارب الناجحة في هذا المضمار خارج البلدان العربيَّة، لاستخلاص الدروس المستفادة منها. كذلك يدخل في نطاق البحث طبيعة الناتج التعليمي في البلدان المصنعة حالياً، وفي المستقبل. ومن الطبيعي أن ينجم عن العمل على البرنامج مسائل تكون في حاجة إلى بحث معمقٍ ترفد المحور البحثي بمهامٍ غير تلك المذكورة.

ويعمل المحور التخطيطي في اتجاهين:
الأوّل داخلي، يسعى إلى تعيين غايات البرنامج والوسائل الكفيلة بالوصول إليها في الآفاق الزمنيَّة المعتمدة، ومتابعة التقدُّم تجاهها، بما يعنيه ذلك من تصحيح المسار عند الحاجة. ويراعى هنا أنّ مبدأ "الترحل" و "التدرُّج" يسمحان بأن تكون خطة البرنامج أوفي تفصيلاً في مراحله الأولى على حين تبقى المراحل التالية بعدها في حدود التصوُّرات العامة الكفيلة بالتضافر لتحقيق الغاية من البرنامج. أمّا الاتجاه الثاني للمحور التخطيطي فخارجي، ويُعنى بالمُساهمة في التّخطيط لقيام برامج ومشروعات تهم دولةً عربيَّة أو أكثر في مجال تطوير التعليم.

ويتبع محور التّرويج والتمويل ناتج المحور التخطيطي. ويسعى إلى حث الأقطار العربيَّة، والمُؤسَّسات والمُنظَّمات التجمعيَّة والقوميَّة، على تبنّي المخططات الناتجة عن البرنامج. ويتضمَّن الجانب الترويجي أيضاً نشر نتائج المحورين البحثي والتخطيطي بأشكالٍ مُختلفة ممّا يساعد على تكوين رأيٍ عام مُوَاتٍ لتبني جوهر مخططات البرنامج.

ومن البديهي أنّ المُنظَّمة العربيَّة للتربية والثقافة والعلوم مرشّحة للقيام بدورٍ قياديٍّ في البُنية المؤسسيّة لبرنامجٍ عربيٍّ لتطوير التعليم في الوطن العربي عامّة. غير أنّه من الضروري تعبئة طاقات مُؤسَّسات عربيَّة أخرى في هذا المضمار، مثل الصندوق العربي للإنماء والصناديق العربيَّة الأخرى، وإن كانت في حاجة إلى بناء إمكاناتها في هذه الحقول فيما يتصل بموضوع التعليم. والأمل أن يكون للصناديق العربيَّة دور مهم في تمويل بعض المشروعات والبرامج التي تصمّم لتحقيق الغاية من البرنامج، خاصّة في حالة البلدان العربيَّة الأفقر. ويتوقع أن يكون لمساهمة هذه الصناديق في تمويل المشروعات أثرٌ إيجابيٌّ على تبنيها.

ومازال ميدان الدّعم المؤسّسي لتطوير التعليم في البلدان العربيَّة يتّسع لأصنافٍ متباينةٍ من المُنظَّمات، الحكوميَّة والأهليَّة، خلافاً لتلك القائمة، شريطة ألّا تنشأ كياناتٌ عاجزةٌ لا توفّر أكثر من وظائف مغرية للمحظوظين دون كفاية.

وفي النّهاية، فإنّ هناك مُنظَّمات دوليَّة عديدة تعمل في مجال التعليم ويمكن أن تتوافر لديها أفكارٌ ودروسٌ وخبراتٌ مهمّة يُستفاد منها، من منطلقٍ نقديٍّ، في بلورة تصور متكامل عن إصلاح التعليم في الوطن العربي، بالإضافة إلى إمكانات العون التمويلي. وهنا، على وجه الخصوص، مشروعٌ كبيرٌ يتبناه المكتب العربي لبرنامج الأمم المتحدة للإنماء ويستهدف تهيئة القوى البشريَّة في البلدان العربيَّة لاقتصاد المعلوماتيَّة.

ولعلّ التعليم العالي من أهم مجالات التعاون العربي في ميدان التعليم، ممّا يوجب إيلاءه عنايةً خاصة. فالحاجة إلى تعاونٍ عربيٍّ فعَّالٍ في التعليم العالي، والعائد المتوقع عليه، أعلى ما يكون. والمجالات المرشحة بجدارة كأولويات للتعاون العربي في التعليم العالي هي: الدراسات العليا، والبحث، والنشر.

ويقتضي تفعيل التعاون العربيُّ تغليب البعد القومي على الاتجاه التنافسي القطري في التعليم العالي العربي. ومن المستحسن، نظراً لارتفاع تكلفة البنية الأساسيَّة لمُؤسَّسات التعليم العالي، تعظيم الاستفادة من البُنى المؤسسية القائمة في الأقطار العربيَّة، وبعض منها غير مستغلٍ بالدرجة الكافية، بعد دعمه وتطويره، في العمل العربي المشترك في ميدان التعليم العالي. ولاشكّ في أنّ التطوُّر الهائل في تقانات الاتصال يمكن أن يساهم في تمتين ذلك التعاون على غرار البرامج القائمة بين البلدان الأوربية مثلاً.

ومشروع "جامعة العرب للدراسات العليا" الذي اقتُرح، أوّل مرة، منذ خمسة عشر عاماً، يجب أن يُعَدُّ المحك الأوّل لقدرة العرب على التعاون في ميدان التعليم العالي بما يُحقق تحركاً جاداً في هذا المضمار.
وربّما يتناسب "معهدٌ عربي للتقانة" يقوم على مستوىً راقٍ مع روح العصر، ويُركِّز على التقانات الأحدث، خاصة تلك المناسبة لإمكانات المنطقة واحتياجاتها، بما يعوض من تخلُّف العرب في هذا الميدان.
وقد تفتح "جامعة العرب المفتوحة" إن قامت بكفاءة لا يشوبها حافزُ الرّبح، أفقاً رحباً في مضمار توفير التعليم العالي لمن فاتتهم فرصة الانتظام في مُؤسَّساته، وتيسير فرص التعليم المستمر مدى الحياة للجميع.

 

 د. نادر فرجاني